جماعة الإخوان التى أسسها حسن البنا في مطلع الثلاثينات ووضع إطارها وأهداف مشروعها، لا يعرف كثير من المراقبين أنها مجرد حزب سياسي آثر ألا يتسمى بحزب الإخوان المسلمين، رغم أن أجهزة الأمن المصرية حتى فى العهد الملكي كانت تسميه حزبا، وتعلم جيدا حقيقة أهدافه فى التوسل بالدين للوصول إلى حكم البلاد.
البنا كان يعرف واقع الأحزاب السياسية المصرية على عهده، وبعيدا عن ضلوعه في تبديد حيوية الشعب المصرى، عبر صرف فئة من قوى الشعب الفاعلة فى اتجاه معركة الهوية هربا من معركة التحديث التى لم يضرب فيها بسهم واحد، كانت عينيه على حكم مصر وليس سرا أن أحد أسباب غضب الملك فاروق عليه فى النهاية هو العثور على صورة شخصية للبنا كتب تحتها ملك مصر وجدت فى درج مكتبه. بعيدا عن صحة الواقعة أو عدم صحتها، فهي تعكس بوضوح أشواق الرجل لهذا الهدف الذي صدقته أفعاله وأفعال جماعته من بعده.
استغل البنا العاطفة الدينية المتقدة للشعب المصري، ونمط التدين المصري الهادئ الذى يحتل فيه رافد التصوف المكان الأبرز، واختار هذا الوجه الصوفي الهادئ لمرحلة التجنيد والاختيار، التي لم يكن للفكر مكان فيها. لم نكن فى العشر سنوات الأولى من نشأة الجماعة أمام إطار فكري يمكن تقويمه أو الحكم عليه، بل مجرد جمعية خيرية تنشغل بالذكر ومساعدة الناس فى أعمال البر. كان هذا تكتيكا مفيدا لجمع الأعضاء وإقناعهم أنهم أمام دعوة جديدة طابعها التجرد والسعي لتحصيل محبة الخالق والخلق معا.
مضت مسيرة الجماعة عبر عقود طويلة تعاقبت فيها الأنظمة وتباين السلوك التنظيمى والسياسي للجماعة، لكن الثابت الوحيد فى الحقيقة أن الجماعة بقيت تنظيما تحكمه لوائح شكلية تكرس هيمنة المرشد العام، منذ حسن البنا المؤسس الذي كتب بمفرده كل لوائح الجماعة، بدءا من لائحة الجماعة الداخلية وقانونها الأساسى الذي تم إقراره فى 8 سبتمبر 1945 وأدخل عليها البنا ما ارتأه من تعديلات فى 21 مايو 1948 قبل مقتله بشهور، وما جرى لاحقا من تعديلات على تلك اللائحة التي ظلت سرا حربيا على الأعضاء، يتهم من يسأل عنها بضعف ثقته فى القيادة وجرح إيمانه بمشروعها الرباني الكبير.
لم تكن الجماعة مشروعا فكريا يمكن القطع بثوابته، ولم يكن لحسن البنا إنتاج فكري يتسم بالأصالة بل حرص على النقل عن من سبقوه دون أن يمتلك الأمانة العلمية لذكر ذلك، فبقي أقرب إلى تنظيم تحكمه لوائح محكمة.
التأمل فى بنود تلك اللائحة يعطينا الكثير عن ملامح ونمط التنظيم، وطبيعة اللوائح التي وضعت لتكرس سلطة أكليروس دينى يتخفى خلف مواد لائحة عصرية، خصوصا ثوابت اللائحة التي لم تتغير بموت البنا، كاعتبار مرشد الجماعة هو الرئيس العام للجماعة الذي يجمع بين رئاسة السلطة التنفيذية أو الإدارية، ممثلة فى مكتب الإرشاد ورئاسة مجلس الشورى الذى لا يحتفظ فى الحقيقة بأي مهام تبرر تسميته باسمه، ويبقى إطارا شكليا يدعي التخلق بالشورى التى تحتفظ الجماعة لها بمعنى خاص، لا يعنى سوى الاستبداد بقناع ديني يدعي أن الشورى التى أمر الله بها وحرص عليها رسوله شورى معلمة وليست ملزمة.
ظلت تلك قناعة حسن البنا، وسلوك من أتى بعده، فى تأكيد على أن الأصل فى وعي القيادة والأفراد أن الشورى معلمة، والدليل هى كل المحطات التي استدعي فيها مجلس الشورى لإسباغ المشروعية على قرار أو توجه، ونسخت فيه إرادة مكتب الإرشاد والمرشد ما صوت عليه أعضاء مجلس الشورى، الذى فوض كل اختصاصاته فى كثير من المراحل لمكتب الإرشاد، فى دلالة على مدى إيمان الإخوان بالديمقراطية أو الشورى سمها ما شئت، فالعبرة بالمسميات لا بالأسماء كما يقول حسن البنا نفسه.
https://www.youtube.com/watch?v=F_oI1rZ91w4
فى مواد لائحة الإخوان ما يؤكد أنك أمام مكر تنظيمى لافت، يختلط فيه سلوك المافيا مع سلوك الشركات أو الدول، ويعكس حرص البنا على تكريس سلطته المطلقة التى تنسخ كل دعاوى الجماعة بالدفاع عن الديمقراطية والدعوة لنظام سياسي راشد. لم تجسد الجماعة عبر تاريخها أي قيمة من القيم التي ادعت الدفاع عنها والتبشير بها، وقديما قالوا فاقد الشيء لا يعطيه، كيف لك أن تدعو للديمقراطية وأنت لم تمارسها أبدا، وكيف تنكر على أى نظام استبداده وأنت ترزح فى استبداد مقيم يدعي الصلة بوحي السماء.
تأمل حرص من وضع اللائحة على أن يحتفظ المرشد بكل السلطة، دون أن ينسى توزيع الوزن النسبى لأعضاء مجلس الشورى، ليبقى الوزن الأكبر لأبناء بعض محافظات الدلتا، المستودع الضخم الذى يمد التنظيم بجنود السمع والطاعة العمياء، وفقا لنمط التربية الذي كرسه البنا عبر من رباهم على عينيه وعلمهم أسرار الدعوة الغامضة. محافظة الدقهلية وفقا لللائحة لها 6 أعضاء، تليها الشرقية والمنوفية والغربية 4 أعضاء لكل محافظة، وباقى المحافظات، باستثناء القاهرة والإسكندرية والجيزة، مقعدين أو مقعد واحد للمحافظة.
وحرصت اللائحة على أن يكون للقاهرة 9 من أعضاء مكتب الإرشاد البالغ عددهم 16 عضوا، وتم نقل بعض الأعضاء للإقامة بالقاهرة لينطبق عليهم الشرط، وتصبح غالبية الأعضاء من أبناء الريف المفضل في الجماعة.
في النهاية نحن أمام تنظيم حرص على التلفيق الفكري، دون أن ينسى التلفيق التنظيمي بلائحة تكرس هيمنة المرشد وبطانته المختارة، ما صدم أعضاء أو قيادات الجماعة فى العديد من المحطات، لعل أبرزها ماجرى من حرمان عصام العريان من عضوية مكتب الإرشاد رغم حصوله على 40% من أصوات أعضاء مجلس الشورى فى العام 2009، ما كشف عورات لائحة لم تكن سوى قناع لم يخف غياب المؤسسية أو الديمقراطية.
https://www.youtube.com/watch?v=lkke3QprvtU
لذا يبقى سؤال المراجعة خاطئا، حين ينخرط فى محاكمة أفكار الجماعة وسلوكها السياسي دون أن يمعن النظر في لوائحها ونظم عملها الداخلية، الأمر الذي يعري حقيقة الجماعة فى كونها حزبا سياسيا يلتحف برداء تنظيمي وفكري أشك أنه نجح فى إخفاء حقيقة تلك الجماعة.