رؤى

«النظام الخاص».. صندوق الإخوان الأسود

في ظل حالة العداء الدائم بين الأنظمة السياسية المختلفة من جهة، وجماعة الإخوان من جهة أخرى، وبالتوازي مع حرص الجماعة على عدم كتابة تاريخها أو كتابته بطريقة انتقائية، ومع غلبة منهج الهجاء السياسي فى تناول حقائق التاريخ، غاب الكثير من الحقائق حول أهم جرائم الإخوان، وأفدح أخطائهم الاستراتيجية، وهي إنشاء النظام الخاص، أول مليشيا إسلامية في القرن العشرين. ما الذي أوعز لمؤسس الجماعة ومرشدها الأول حسن البنا أن يؤسس هذا التنظيم، وماذا كانت أهدافه، ومن هم أهم قياداته، وهل تحول من تنظيم تابع للجماعة إلى تنظيم مستقل، وكيف أصبح حالة ملهمة للعنف تحت عناوين إسلامية فى أجيال حركات العنف كالجهاد والقاعدة وداعش، ثم في الأخير تنظيمات أصغر حجما وأقل تأثيرا مثل لواء الثورة وحسم وغيرها من عناوين العنف العشوائي، التي خرجت عن الجماعة في أحدث فصول صراعها مع الدولة المصرية.  

يحاجج بعض مؤرخي الجماعة أو رموزها بأن التنظيم الخاص تأسس كرد فعل لجرائم العصابات الصهيونية، التي كانت قد انطلقت فى حرب عصابات ممنهجة لتأسيس الدولة ودفع الفلسطينيين للهجرة القسرية، وذلك بعد فشل الثورة العربية الكبرى فى العام 1939. يذهب هؤلاء إلى أن حسن البنا ارتأى أن مواجهة هذا الخطر الصهيوني لن تنجح إلا عبر تكوين تنظيم عسكري له تكوين عقائدي، يواجه عصابات اليهود بطريقتهم، طريقة حرب العصابات وليس الجيوش النظامية. وبافتراض أن ذلك صحيح، فلم يكن الفيلق اليهودي الذي اشترك فى الحرب العالمية الأولى والثانية سوى ثمرة تدريب متقدم تلقته الحركة الصهيونية، اعتمد على اتفاق مع بريطانيا فى دعم تأسيس وطن قومي لليهود فى فلسطين.

كان الفارق هائلا بين جيش ينشأ بدعم غربي مطلق واتفاقات قوى كبرى على مهمة إمبريالية ينهض بها الكيان الناشئ، وبين تنظيم ينشأ سرا فى ظل الاحتلال البريطاني ويروج أن من أهدافه شن حرب على الاستعمار لم نر مشاهد لها بالشكل الذي يؤكدها، بل كان غض قوات الاحتلال الطرف عن التمدد الواضح لفروع التنظيم وشعبه فى مصر دليلا على سعادة الإنجليز بهذا الوافد الجديد، الذي يضرب فكرة الدولة الوطنية الناشئة ويعيد تقسيم الشعب المصري على أساس الدين. الهدف الثاني المعلن للتنظيم كان هو الدفاع عن قضية فلسطين، ويؤكد البنا أن مفتي فلسطين الشيخ  أمين الحسيني، عندما قدموا له تبرعات الإخوان لفلسطين أجابهم بأنهم بحاجة إلى السلاح وليس إلى المال، فشرعوا فى جمعه، ونظرا لضعف خبرتهم فقد وقعوا ضحية للسماسرة الذين باعوهم أسلحة غير صالحة، ما أغراهم بضرورة تطوير حركتهم بهذا الاتجاه نحو ما سماه محمد مهدي عاكف محو الأمية العسكرية للشعب المصري.

ويكشف الأستاذ خالد محمد خالد فى مذكراته، وكان ممن اقتربوا من الإخوان مكونا صداقات مع أهم رموزهم مثل الشيخ سيد سابق مفتي النظام الخاص والشيخ محمد الغزالي الداعية المعروف، أن حيثيات تشكيل الجهاز كما أعلن حسن البنا فى حينه تتمثل في شن حرب على الاستعمار البريطانى ممثلا في نفوذه وجيشه، وقتال الذين يخاصمون الدعوة ويحاولون إعاقة سيرها، وإحياء فريضة الجهاد.

ثم يردف قائلا: “إن ما يعينيا ونحن نشجب هذا التنظيم السري هو البند الثاني، قتال الذين يخاصمون الدعوة ويحاولون تعويق سيرها، فلقد أسرف التنظيم فى هذا السبيل إسرافا كان السبب الأوحد فى تدمير الإخوان من الداخل والخارج، وكان السبب الأوحد فى فقد الإخوان أثمن ما يملكون، حياة الأستاذ المرشد الذي ذهب فى معركة ثأر شرسة وضارية”.

رغم الشهادة القوية لخالد محمد خالد، يحاجج إبراهيم بيومي غانم، وهو من الباحثين المقربين من الجماعة، بأن لديه ما يعتبره البيان التأسيسي للنظام الخاص، ويعني بذلك رسالة رسمية وجهها حسن البنا لرئيس الوزراء محمد محمود باشا، سنة 1938 بمناسبة صدور الكتاب الأبيض البريطاني، الذي كان يبحث عن طريقة لإخماد الثورة الفلسطينية، بسبب نذر الحرب العالمية آنذاك. أرادت بريطانيا أن تتفرغ لمواجهة هتلر وأطماعه، فجاء الكتاب الأبيض مخيبا لآمال الفلسطينيين ومنحازا للعصابات الصهيونية المعتدية، فوصفه البنا بالكتاب المشؤوم، قائلا في العام 1938: “إنه منذ قامت الثورة الإسلامية في فلسطين والإخوان يسهمون مع جنود تلك الثورة الرائعة بأموالهم، مؤكدا أنه أصبح لزاما على كل مسلم أن يؤدي واجبه بما يرضي الله ورسوله، وبما يحفظ للإسلام كرامته، ذلك أن الإنجليز واليهود لن يفهموا إلا لغة واحدة هى لغة الثورة والقوة والدم”.

يعتبر غانم أن هذا هو البيان التأسيسي الذي مهد لميلاد النظام الخاص، لكنه يعود فيتناقض هو مع ما طرحه، عندما يؤكد أنه عثر فى المكتبة الخاصة للبنا على نسخة من كتاب ابن الساعي المسمى “الجامع المختصر في عنوان التواريخ وعيون السير”، ولا حظ أنه وضع خطوطا في صفحة 228 من الكتاب عند الفقرات، التي تتحدث عن نظام الفتوة الذي ظهر فى القرن السابع الهجرى في زمن الناصر لدين الله، وكان نظاما حربيا يتكون من خلايا بكل منها عشرة أفراد، وعليهم عريف، وعلى كل عشرة عرفاء نقيب، وعلى كل عشرة نقباء قائد، وعلى كل عشرة قادة أمير، وكان لهم زي حربي متميز، وقويت هذه التنظيمات لما ضعفت الدولة العباسية عن مواجهة الفوضى الداخلية والهجمات الخارجية.

يرجح غانم أن شكل النظام الخاص بدأ فى ذهن الشيخ من تلك السطور، وكل المصادر التي تتحدث عن الهيكل العام للنظام الخاص تؤكد أنه لا يختلف كثيرا عن تلك التنظيمات. الفكرة أقدم في عقل الرجل إذن، ولم يكن الحديث عن مواجهة اليهود والإنجليز سوى عنوان دخاني جاذب، شأنه شأن كل الدعاية المكتوبة التي تختلف عن التعليمات الشفيهة ووصايا الطائفة، التي ظلت هي العامل الحاسم فى أفكار وسلوك الجماعة عبر تاريخها.

أبرز قيادات التنظيم الخاص كان عبد الرحمن السندي، الطالب بكلية الآداب، الذي كان يصغر حسن البنا باثني عشر عاما، المريض بالقلب المرشح للموت المباغت فى أي لحظة. يقول الأستاذ خالد محمد خالد: والعجيب أن مرضه هذا وترقبه الموت في كل لحظة كانا وراء ترشيحه واختياره ليقود التنظيم السري، الذي تتطلب قيادته عافية الجسد والنفس والعقل، ويؤكد أن الأمور اضطربت بين يديه وتمرد حتى على المرشد نفسه.

يحكي عبدالمنعم أبو الفتوح ما قصه عليه بعض الرعيل الأول من الإخوان، أن البنا ذهب إلى أحد اجتماعات النظام الخاص قبل أن يأتي السندي للاجتماع، وعندما حضر السندي قال: من أدخل هذا إلى الاجتماع؟.

هناك خلاف تاريخي مشهور في هذا المفصل، حيث ينكر البعض وجود أي خلافات بين السندي والبنا، وأن من أشاعوا ذلك حاولوا الفصل بين توجهات الرجلين، وهو ما قد يشرحه كلام خالد محمد خالد فى هذا الخصوص، حيث يؤيد ما أكدته العديد من الوقائع التاريخية من أننا أمام تنظيم ماكر ومرواغ، يتحسب لكل الاحتمالات.. يقول: “كان التنظيم السري بارعا فى التنكر، فهو بعد تدريب أعضائه على كل أفانين الإرهاب، يأمر بعضهم أن يلتحق ببعض الأحزاب أوالجماعات، حتى إذا اختير يوما لعمل من أعمال الاغتيال أو الإرهاب، لم يبد أمام القانون ولا الرأي العام من أعضاء الإخوان، ناهيك عن أعضاء النظام السري ذاته”.

من هذا النوع كان محمود العيسوي عضو الإخوان، وفدائي النظام الخاص، وبقي الناس زمنا طويلا يجهلون عنه هذه الصلة، وحين ارتكب جريمته لم يعرف عنه إلا أنه شاب متحمس من شباب الحزب الوطني.

هل يماري أحد بعد كل ذلك في حقيقة النظام الخاص الذي كان فكرة راسخة مكتملة في عقل المؤسس، شأنها شأن كل أهدافه ووسائله التي كانت متنوعة وماكرة بقدر مواهب الرجل وقدراته فى التنظيم.

أحمد بان

كاتب و باحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock