وضعت حقيبتي على كاهلي عازمًا الذهاب إلى مدرستي الإعدادية مبكرًا، فقد كنت رائدًا لفصلي «أولى ثاني».. فصاح بي والدي أن أتوقف، فقد عزم هو أيضًا أن يوصلني بسيارته إلى هناك.. لم تكن عادتي ولا عادته معي، فقد كنت أكره نظرات أقراني عندما أدلي بقدمي من السيارة وأشب مرتجلًا حتى البوابة.. كان يعرف أني أفضل الذهاب وحيدًا أو مع أقراني.. لم ترحني عينا أبي منذ عدة أيام .. كأن هناك شيئا يريد أن يصارحني به، لكنه كان متحسبًا لردة فعلي.
مرقت السيارة على مدرستي ولم تتوقف.. نبهته إلى أنه تجاوز نقطة الهدف، إلا أنه ظل صامتًا، حتى توقف عند المعهد الأزهري الذي يقبع خلف أسوار مدرستنا الكبيرة.
توقف أمام البناية القديمة التي تغوص جدرانها في أرض سبخة كاد أن يأتي الملح على جدرانها.. بدأ قلبي في الخفقان عندما ألقى بكلمات ثقلت على لسانه: من اليوم أنت على ذمة المعهد وليس لك علاقة بالمدرسة… أجهشت بالبكاء، فمنحني نظرات عطف وابتسامة شفوقه، لكنه لم يتراجع عن مراده.
كنت أعرف أن له ميول دفينة في الزج بي إلى هذا المكان.. لكني ظننت أن رغبته هذه ذهبت مع الريح عندما فشلت في معادلة الانتقال من الابتدائية العامة إلى الإعدادية الأزهرية، إذ تعرضت للاختبار أمام شيوخ أصروا – على غير العادة- ألا يتجاوز تلك المعادلة إلا من كان حافظا للقرآن عن ظهر قلب… لم أكن أنا منهم، لكن لم يكن اليأس عادته، فذهب للحصول على قرار استثنائي بدخولي لا أعرف كيف لكنه جاء متأخرًا .. بعد مرور شهرين من بدء الدراسة.
لم ترد أرجلي أن تحملني إلى حيث طابور الصباح فقد أثقلني شعور الفراق والحنين إلى صحبتي في مدرستي حين أتذكر أن هذه البناية هي ما انتهيت إليه وأنه لم يعد بإمكاني العودة إلى ما أحببت. لم يكن لي أقران في المأوى الجديد، فقد عزف سكان بلدتنا عن إدخال أبنائهم الأزهر، ولم يكن يحوي بداخله سوى أبناء القرى المحيطة ببندرنا، فاجتاحني شعور الغربة الحارة. ألحفتني نظرات أبي الذي لم يغادر إلى حين وقفت في صف لا يتجاوز 12 فردًا يشكلون الفصل الأول الإعدادي في المعهد الذي كان يضم تلامذة الابتدائي، وكأنه بمنحه إياي تلك النظرات يساعدني في مقاومة شعور الاغتراب المرير.
تقدم غلام صغير إلى كرسي خيزران ينتصف ساحة الطابور الصغير البائس.. خلع نعليه ووضع كفه على أذنه اليمني فشهق ثم انطلق بصوت عذب: «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم…» .. يطوف حوله شيخ بدين، لا أسمع منه بعد كل آية إلا همهمة وحشرجة “هاا.. هاا”.
وسط أعمدة عتيقة يغور نصفها تحت الثرى دخلنا فصلنا.. لم يكن فصلا بالمعنى الحرفي، بل كان قاعة لسينما قديمة تابع لمبني الشؤون الاجتماعية، بنته الحكومة أواخر الخمسينات من القرن الفائت، له سطح عال وبلكون وسلالم يصعد من خلالها على مسرح يودي إلى حائط مطلي باللون الأبيض.. ويشي بأن البلدة شهدت طفرة كبيرة مبكرة في حقبة النظام الناصري.
لم أقتنص فرصة للتأمل طويلًا حتى اقتحم علينا المكان عملاق ضخم الرأس، عريض المنكبين، طويل القوام، بدين الجسد، يرتدي جبة وقفطان وعمامة بيضاء تلتف حول طربوش أحمر يتدلى منها زر أسود.
كادت الطبشورة أن تختفي بين أصابيع الشيخ حين خط على السبورة كلمة واحدة: «تسميع»، فهمهم الرفقاء من حولي، حتى سمعت أحدهم يقول: «كل واحد يطلع ربع جنيه» فوجهت وجهي إليه قائلا: لماذا؟… لقد اعتادوا على أنه إذا كتب الشيخ “تسميع” فإن ذلك يعني أنه يريد 6 علب زبادي و6 أرغفة من الخبر الأبيض.
تجاهل الشيخ عملية التفاوض في انتظار ما ستسفر عنه لكن الوقت قد طال ولم يبدي أحد استعداده إلا نفر منهم، أما البقية فلم يكن أكثرهم يمتلك سوى أجرة السيارة التي ستوصله لقريته.
«شيخ أحمد هات عصاك».. الشيخ أحمد كان من الزملاء ذوي الإعاقة، لكنني لم أكن أتخيل أن شيخنا الجليل يمكنه أن يضربنا بعصاه تلك.. كانت عصا غليظة ومتوحشة، لو وقعت على عظم لحطمته أو على جمجمة لشطرتها نصفين.
وقف الرفاق صفًا وبدأت “المعجنة”.. لم أكن أتصور أنهم سيتحملون وقع الضربات المؤلمة لكن أيديهم كانت خشنة، فأغلبيتهم كانوا “يحشون” البرسيم للبهائم بعيد الفجر ثم يختارون جحيم المعهد على جحيم الحقل.. تلقى كل منهم ما يربو على 10 ضربات، لكنهم كانوا يبتسمون.. أما أنا فقد نجوت بعد أن صحت متلعثما: «إنه أول يوم لي هنا».. ظننت أن ما أصاب زملائي يكفي صباح ذلك اليوم، إلا أن ما جرى بعد ذلك أثبت أن الذي عشناه لم يكن كافيًا.
بعد “المعجنة” الصباحية.. لم يكن يخطر في بالي أنه من الممكن أن تقع أخرى مشابهة لسابقتها، فهل يمكن أن يتحمل أقراني عذابات أخرى في ذات اليوم؟.. لم يكن ذاك هو المنطق الحاكم في المعهد الديني، فكل مدرس أو شيخ لا شأن له بسابقه، ولا يعنيه ما فعل بهؤلاء الفتيان.
دوى صرير الباب الحديدي، معلنا عن دخول قصير قليل البدن ذي عيون سوداء وابتسامة غير محددة الدلالة.. توجه إلى السبورة وكتب «إنشاء»، ثم جلس هادئًا وديعًا لا يتحدث.. ساد صمت وهدوء ملأ أرجاء القاعة، فلم يكن هناك ما يدعو إلى التوتر بحكم طبيعة المادة التي اعتاد المدرسون تمضية وقتها على أي حال.
لمحت عينا الوديع الجالس أحد الطلاب فباغته قائلا: أين كراسة الإنشاء؟، فتلعثم حين جاوبه قائلا: نسيتها والله يا أستاذ.. فزع الرجل فزعة من أخبر لتوه بمصاب عظيم، وتوجه نحو الباب وولى مدبرا، ولكنه عقب متمما ومكررا «يا ولاد الكلب يا بهائم…».. لم أكن أفهم ما يدور حولي ولكن رفقائي كانوا يتجهزون لاستقبال حدث لا تشي نذره بخير على أية حال.
مرت نحو 10 دقائق، وإذا بالقصير الضئيل يقتحم المكان وكأنه داخل لتوه مباراة مصارعة رومانية، إما أن يحيا بعدها أو ينتهي للأبد، يحمل بيده اليمني حزمة بها جذوع شجر كافور وصفصاف، وباليسرى حزمة مربوطة تحوي قطع من الخشب، استجلبها من الأراضي الزراعية المتاخمة، ومن المجزر الآلي الذي كان ما زال تحت الإنشاء… قذف بأدوات الجريمة في أحد الأركان، وهو مشتاط غضبًا، كما خرج، ومازال يردد شتيمته كما هي لم يغيرها.
استل عصاه ثم هاج علينا وكأن وعيه قد تاه منه في الطريق.. تخرج العصا أصوات أشباح وهي تشق الهواء في اتجاه جسد الضحية، ثم تصدر صوتا مهيبا عند الاصطدام بالعظام واللحم.
كان يضرب في كل مكان وكأنه لا يعي ما يفعل، أو يرى أين تقع عصاه، حتى نزلت مجموعتنا جميعا تحت المقاعد، فكان يصعد فوقها ليضرب أو ينزل بظهره لأسفل ليحاصر فريسته.
لا أعرف كم من وقت مضى في العملية.. إلا أنني أتذكر كيف اكتست أرضية الفصل بهشيم الخشب المتكسر والمهترئ، ولا أدري كيف وعى الأستاذ لكلماتي حين صحت في وجهه: «أول يوم لي هنا» فتركني ونجوت.
انتهت المأساة الإنسانية وأنين الآهات يملأ أركان القبو الموحش حتى خرج الجلاد وهو يردد «يا ولاد الكلب يا بهائم..» لم يصمت عنها برهة.
ما إن خرج حتى ضج الفصل بالضحك الهستيري، وبدأت عملية نزع القمصان من على الأجساد التي كانت تنضح بالدم، وخطوط التشريح الزرقاء الملتهبة تملأ الظهور والبطون.. راودني هاتف الهرب، لكني لم أكن قد فعلتها من قبل فلم أستطع كسر الحاجز بحكم التنشئة، فقد يلاحقني العار في المنزل، إذ لم يكن يهرب من مدرسته في وعي والديَّ وأخوتي إلا من يحمل جينات الفشل.
هل يمكن أن تتحمل هذه الأبدان جرح آخر فوق جروحها؟.. دخل قصير آخر لكنه بدين، لكننا استبشرنا خيرًا، فهو يحمل عصا خيزران، ما يعني أنه لن يستخدم شوم أو يضرب بأفرع الشجر.. اندمج في شرح النحو والصرف وبدا مجتهدا مخلصا.. ما إن أخذنا في الاستغراق معه حتى دوى انفجار مدو خلفنا، وعلى إثره طار الهادئ البدين في اتجاه الباب ونحن في ذيله.
حاول أن يفتح الباب، لكن أعصابه لم تمنحه القدرة على ذلك.. فسبقه الرفقاء بفتح الباب وولينا نحو الخارج ولم نعقب، حتى وصلنا على مشارف الطريق المعبد.
التقطنا أنفاسنا وأخذنا في استيعاب ما حدث… كتلة خرسانية دائرية ضخمة سقطت من سقف الفصل الواسع وهبطت خلفنا مباشرة فامتلأ الفصل بالغبار، لكننا عدنا مرة أخرى وأكملنا الدرس حتى انصرفنا.