رؤى

«نصوص ذم الدنيا» .. الفهم المغلوط للدين

كثيرا ما شغل سؤال “لماذا تخلف المسلمون ونهض غيرهم؟” أذهان الكثيرين ممن عرفوا برواد الإصلاح الإسلامى، وقدمت رؤاهم فى الغالب فى كيفية الخروج من حالة التخلف باعتبارها الدواء الناجع، ولقد دارت تشخيصاتهم حول ترك تعاليم الدين وانحسار سلطانه فى النفوس، معتقدين أن الحل هو فى استعادة سلطان الدين على تلك النفوس، ولقد سلكوا فى ذلك مسالك شتى كان من أكثرها خطلا استبدال سلطان الله وتعاليمه بسلطان التنظيم وقياداته وأذواقها واختياراتها الخاصة، انطلاقا من أذواق وإختيارات الفقه الإسلامى التى توافقت مع بساطة البدو وخلو حياتهم من معانى الحضارة ومفردات الإستخلاف البشرى الصحيح.

كان باب ذم الدينا والزهد فيها والتقلل منها ثابتا من ثوابت الاعتقاد لدى طبقات من الفقهاء والسلف، انفعالا بالحال التى وصلت لها الأمة بعد مرحلة عمر رضى الله عنه، عندما أتاح الخليفة عثمان بن عفان لطبقة من الأمويين مناصب الدولة، وانخراط هؤلاء فى ألوان من فساد الإدارة والسلوك مما أشعل فتنا لم يخب إوارها حتى اليوم.

اختار عمر أن يأخد قومه بالعزيمة مشددا عليهم فى كل شيء يتعلق بملذات الحياة، وكان هذا اجتهاده الخاص الذى سوقه البعض باعتباره صحيح الدين أو الوجه الأكثر رشدا فى تطبيق تعاليمه، ثم جاء عثمان الذي تحدثوا عن أنه كان يأكل صغار الضأن فى محاولة للإساءة إليه وتقديمه باعتباره من فرط فى قيم الرشد والاعتدال والإقبال على الدنيا .

بطيبعة الحال اختلط فى وعى الكثيرين الترف والاغتراف من الشهوات بالتمتع المشروع بالطيبات، كما وضع نموذج عمارة الدنيا والاغتراف من العلم والتجربة مقابل الاغتراف من الملذات والشهوات، ومن ثم كان الاختيار الأسلم للنجاة بالدين هو ذم الدنيا التى أفسدت على الناس دينهم، ولم تكن الدنيا صاحبة الجناية بل كانت أفكار هؤلاء عن الدين والدنيا هى المسؤولة عن تلك الفتنة التى لم تنته.

عزز التصوف أيضا فكرة التخفف من الدينا والزهد فيها والاستعلاء عليها، لكن الفقه كان له اليد الطولى فى تأبيد تلك النظرة للدنيا والتى كانت الباب الواسع للتخلف الذى أحاط بالأمة، فقد اعتمد الفقهاء على ترسانة من الآيات والأحاديث فى تأكيد منطقهم فى ذم الدنيا وجعل الاهتمام بها وبعمارتها وحضاراتها لونا من ألوان الغواية وحديث النفس والشيطان فى قوله تعالى: “زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب”.. وقوله “وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور” وقوله “وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين”.

وتوجيه المسلم بالإعراض عنها وعمن يهتم بها وبعمارتها، فى فهم مغلوط ومتعسف لمعنى الآية: “فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم”.

 لم يغب الحديث النبوي الشريف في استشهادات القوم، ففي الصحيحين من رواية المستور بن شداد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم “ما الدنيا في الآخرة إلا كمثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم، فلينظر بم ترجع؟

هنا ووفقا للنظرة القيمية في الإسلام نجد الحياة الحقيقية التي تخلو من الشقاء والمكابدة والسعي هي الآخرة، لذا يبدو عطاء الله لخلقه فيها مقارنة بعطائه لعباده الصالحين الذين استقاموا على أمره ضئيلا، مقابل جنة عرضها السماوات والأر،ض وهذا مقصد الحديث عندما يطالع المسلم الدنيا وقد أعطته من ثمراتها فيغتر معتقدا أن هذا هو كل عطاء الله، فينبه الإسلام وعيه إلى أن ذلك ضئيل إذا ما قورن بعطاء الآخرة.

لذا يأتى الحديث الآخر الذى يصف فيه النبي الدنيا بأنها سجن المؤمن “الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر” لماذا سجن المؤمن؟ لأنها تحجبه عما يتطلع إليه في الآخرة من جزاء، فيظل مشتاقا إلى النعمة الكاملة والنعيم المقيم، مقابل المتع الزائلة فى الدنيا المرهونة بالعمر القصير والتبدد السريع.

وحين يعزى الرسول الفقراء من المؤمنين بحديث: “لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء” فهو يقيمها فى نفس المؤمن فى حقيقتها كمرحلة من الحياة هي الأقصر فى مسيرة المؤمنين ارتباطا بآجالهم المحدودة وليس الذم هنا لصرفهم عن عمارتها .. فهو القائل “قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هى للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون”.

لا تقطع تلك الآية تصور القوم حول الدنيا، وتمضى النصوص فى تأكيد أهمية الدنيا كممر أراده الله للأخرة، لكن فهم كثير من السلف لها لم يمض سوى فى ذمها ومن ثم الإعراض عنها تدينا وورعا،  لذا ستجد لونا من الحدية فى العلاقة معها ورفضا للتوازن أو التوافق معها فى فهم حديث رواه أبو موسى، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال “من أحب دنياه، أضر بآخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنياه، فآثروا ما بقى على ما يفنى”. المسلم هنا مطالب بالاختيار بين الدنيا والآخرة، فلا مجال للجمع بينهما فى قلبه أو معتقده .

تأمل معي هذا النص أيضا: كتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز في ذم الدنيا كتابا طويلا جاء فيه “أما بعد فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار مقام، وإنما أنزل إليها آدم عقوبة، فاحذرها يا أمير المؤمنين، فإن الزاد منها تركها، والغنى فيها فقرها، تذل من أعزها، وتفقر من جمعها، كالسم يأكله من لا يعرفه وهو حتفه، فاحذر هذه الدار الغرورة الخيالة الخادعة، وكن آثر ما تكون فيها، أحذر ما تكون لها، سرورها مشوب بالحزن، وصفوها مشوب بالكدر، فلو كان الخالق لم يخبر عنه خبرا، ولم يضرب له مثلا لكانت قد أيقظت النائم، ونبهت الغافل، فكيف وقد جاء من الله عز وجل وعنه زاجر وفيها واعظ، فما لها عند الله سبحانه قدر ولا وزن، وما نظر إليها منذ خلقها.

وقال مالك بن دينار: اتقوا السحارة، فإنها تسحر قلوب العلماء، يعنى الدنيا. ومن أمثلة الدنيا: قال يونس بن عبيد: شبهت الدنيا كرجل نائم، فرأى في منامه ما يكره وما يحب، فبينما هو كذلك انتبه. ومثل هذا قولهم: الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا. والمعنى أنهم ينتبهون بالموت وليس في أيديهم شيء مما ركنوا إليه وفرحوا به.

قيل: إن عيسى عليه السلام رأى الدنيا في صورة عجوز هتماء عليها من كل زينة. فقال لها: كم تزوجت؟ قالت: لا أحصيهم. قال: فكلهم مات عنك أو كلهم طلقك؟ قالت: بل كلهم قتلت، فقال عيسى عليه السلام: بؤسا لأزواجك الباقين، كيف لا يعتبرون بأزواجك الماضين، كيف تهلكينهم واحدا بعد واحد، ولا يكونون منك على حذر.

بتلك النصوص وشروحها تعززت فى نفوس المؤمنين قطيعة طويلة مع الدنيا تعتبرها محلا للغواية والضلال، أثمرت انصرافا عن تعميرها وفق قواعد صحيحة وربما ليس من قبيل المبالغة أن نقول أن بروز بعض العلماء فى علوم تجريبية لها صلة بعمارة الأرض كالكمياء والفيزياء والطب والرياضيات، كانت اختيارا خاصا أيضا لبعض الخلفاء ولم تكن اختيار لدولة أو خلافة ولم تعبر عن توجه عام يصنع تراكما حضاريا، كالذي شهدته المجتمعات الغربية.

أحمد بان

كاتب و باحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock