للوهلة الأولى، تبدو الأصول التسعة عشر التي وضعها حسن البنا بعد الأصل الأول المعروف بأصل الشمول.. تبدو لا إشكال فيها، ولا يظهر منها ما يستحق النظر والنقد.. لكن علاقة هذه الأصول مع أصل الشمول هي ما سبب الأزمات الفكرية للإخوان، سواء على مستوى التنظيم، أو على مستوى علاقة الجماعة بالمجتمع.
ففي الأصل الثاني، يقرر البنا أن “القرآن الكريم مرجع كل مسلم في تعرف أحكام الإسلام، ويفهم القرآن طبقا لقواعد اللغة العربية من غير تكلف، ولا تعسف، ويرجع في فهم السنة المطهرة إلى رجال الحديث الثقات”.. ويقع التأزيم والإشكال عند وضع هذا الأصل تحت رحمة الأصل الأول، الذي يجعل للشريعة كلمة في كل حركة وسكنة تصدر عن الفرد أو الجماعة، مما أدى إلى حالة من التساؤل الدائم والإفتاءات التي لا تنتهي حول ما يجوز وما لا يجوز، ما يقبله الشرع وما يرفضه، مهما تفرعت الأسئلة أو طالت مناطق هي في حقيقتها من المسكوت عنه شرعا.
لذا، يشيع في التفكير الإخواني ما يعرف بالتأصيل الشرعي، لا سيما مع المستجدات، سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية.. فالجماعة، عندما قررت خوض الانتخابات البرلمانية أعوام 1978، و1984، و1987، اضطرت أن تقدم لأعضائها تأصيلا فقهيا لجواز المشاركة في العملية الانتخابية. وقد يتطور هذا التأصيل بتطور مصلحة الجماعة، فينتقل حكم المشاركة من الجواز إلى الوجوب، مما يعني أن عدم المشاركة يمثل إثما وحرجا شرعيا.. لكن لا يأتي عام 1990 إلا وقد قررت الجماعة مقاطعة الانتخابات، فإذا بالتأصيلات الشرعية تتحدث عن إثم المشاركة في عملية يشوبها التزوير.
لا تكتفي الجماعة إذن بتقديم تأسيس سياسي لضرورة المشاركة عندما تقرر خوض الانتخابات، أو بضرورة المقاطعة عندما تقررها، بل يبادر قادة الجماعة إلى تقديم السند الشرعي الذي يبرر الموقف السياسي، لأن الجماعة تربي أعضاءها بطريقة تجعل من أحكام الدين، والحلال والحرام، والمثوبة والإثم، وقودا قويا لحركة أعضاء التنظيم، والسيطرة على الأعضاء، ووأد النقاشات الجانبية بين الأفراد.
ولأن الأصل الثاني يقرر أن مرجعية المسلم هي القرآن والسنة، فبالطبع لا تعدم الجماعة الاستشهاد بآيات من القرآن الكريم، وأحاديث نبوية، يتم توظيفها، ووضعها في سياق يخدم توجهات التنظيم وقراراته.
كما توظف الجماعة النصوص في شؤونها التنظيمية الداخلية، فآيات القرآن التي تقول: “يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله وأولي الأمر منكم” أو “طاعة وقول معروف” أو “ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم” وكل ما جاء في القرآن عن الطاعة، تستخدمه الجماعة باعتباره أدلة شرعية على وجوب السمع والطاعة من قبل الأعضاء لقادة التنظيم، ومن قبل كل عضو تجاه مسؤوله المباشر.
أما قوله تعالى في سورة الفتح “إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله، يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما”، وكذلك الحديث الشريف، من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية، وكل ما ورد من نصوص عن أهمية البيعة والوفاء بها فتستخدمه الجماعة باعتباره دليلا شرعيا على وجوب بيعة المرشد العام، وعلى ضرورة الثبات مدى الحياة على هذه البيعة، حتى لا يقع “الأخ” في نكث ما عاهد الله عليه.. وهكذا تستسهل الجماعة أن تضع قادتها في مكانة الرسول، وحتى لو لم تصرح بذلك في وضوح، فإن هذا المعنى يترسب حتما في قلب وعقل كل عضو يُدعى إلى بيعة المرشد، ثم يجد أن إجراءات هذه البيعة تبدأ بآيات تقول: إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله.
وفي التوظيف الداخلي للنصوص تستخدم الجماعة الآيات التي تتحدث عن النفاق، والقعود عن الجهاد، والتخلف عن معركة يقودها الرسول، في حث الأفراد على الالتزام بالمواعيد التنظيمية للجماعة، مثل الأسرة والكتيبة أو ترتيب الانتخابات النقابية أو التجهيز للسيطرة على الاتحادات الطلابية.
وكذلك تستخدم الجماعة نصوص النهي عن التناجي “إنما النجوى من الشيطان” في منع النقاشات الحرة، والآراء النقدية بين أعضاء الصف الإخواني، بحجة أن كل عضو يمكنه أن يقول ما يريد لمسؤوله المباشر وعبر الأطر التنظيمية الرسمية.
وهكذا، يتعانق الأصل الثاني من أصول البنا العشرين مع الأصل الأول مسببا حالة من التفريع اللانهائي، لتأطير حركة أفراد الجماعة والسيطرة على القلوب والألسنة، فالمخالف هنا لا يقع في خطأ تنظيمي، أو تجاوز لائحي كما تعرفه الأحزاب والتنظيمات المدنية، وإنما هو واقع في الإثم، مخالف للشريعة التي يعيش ويعمل من أجل نصرتها ورفع لوائها.
في الأصل الرابع من أصوله العشرين يقرر حسن البنا أن “التمائم والرقى والودع والمعرفة والكهانة وادعاء معرفة الغيب وكل ما كان من هذا الباب منكر تجب محاربته إلا ما كان آية من قرآن أو رقية مأثورة”.. يغفل البنا أن أكثر من يتعاملون مع ما ذكر لا يأخذون هذه الأمور على محمل الجد، فمن يتمشى على كورنيش النيل ثم تستوقفه ضاربة الودع فيقف ليسمع منها نبؤاتها ويعطيها مكافأة رمزية، لا يعتقد أبدا أن تلك المرأة البسيطة الأمية تعلم الغيب.. لكنه يتعامل مع الأمر باعتباره مجرد “فولكلور”، ويستمع إلى كلمات الضاربة من باب التفاؤل، لاسيما أن ضاربات الودع لا يُسمعن زبائهن إلا بما يحمل الأمل والبشرى.. لذا كان اعتبار هذا الموروث الشعبي منكرا تجب محاربته شططا وغلوا يستمسك به أعضاء الجماعة.
كما أن البنا لم يكتف بالحكم على “الودع” و”الرمل” بأنها منكر، وإنما قرر في وضوح أن هذا المنكر تجب محاربته، وهو ما يمكن أن يترجم في شكل تصرفات عنيفة تجاه البسيطات المسترزقات، أو تجاه من يسمع منهن “توقعات المستقبل”.
وفي الأصل الخامس يقول البنا: “ورأي الإمام ونائبه فيما لا نص فيه، وفيما يحتمل وجوها عدة، وفي المصالح المرسلة، معمول به مالم يصطدم بقاعدة شرعية، وقد يتغير بحسب الظروف والعرف والعادات…”. والإشكال في كلام البنا لا يظهر إلا عند محاولة أعضاء جماعته تطبيق هذا النص على أرض الواقع، فالبنا لم يحدد من الذي يقرر أن تصرفا ما أو قرارا ما للسلطة قد اصطدم بقاعدة شرعية، فعمليا، ستكون جماعة الإخوان، ممثلة في قادتها هي التي تقرر أن قرارا أصدره الرئيس أو رئيس الوزراء أو قانونا شرعه البرلمان يخالف قاعدة شرعية أو لا يخالفها، مما يُبقي لقيادات الجماعة سطوة منح الصراع السياسي أبعادا دينية، تكون وقودا لترسيخ العداء تجاه السلطة ومن يساندها، ويزيد من التفاف الأتباع والعامة حول الجماعة باعتبارها حافظة الشرع والمدافعة عن الدين.
فعندما تكون الجماعة في صفوف المعارضة، فإنها تعتبر أكثر قرارات السلطة مخالفة للشريعة، ومعطلة للحدود، حتى إذا وصلت الجماعة إلى الحكم، تحدث قادتها عن تغير الظروف والعرف والعادات، مما يؤكد أن الأصل الخامس قد صاغه البنا صياغة مطاطة مراوغة، وليس كما يبدو بالنظر السريع واضحا لا لبس فيه.
وفي الأصل السادس، يقرر البنا: “وكل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، وكل ما جاء عن السلف رضوان الله عليهم موافقا للكتاب والسنة قبلناه، وإلا فكتاب الله وسنة رسوله أولى بالاتباع، ولكنا لا نعرض للأشخاص فيما اختلف فيه بطعن أو تجريح، ونكلهم إلى نياتهم وقد أفضوا إلى ما قدموا”.. وربما كان أعضاء الإخوان هم أكثر الناس مخالفة لهذا الأصل، فهم لا يأخذون من كلام قادتهم ويتركون، بل إنهم يعتبرون قرارات الجماعة وكلام قادتها ذا قداسة ورفعة.. وتحت لافتة الطاعة والثقة، لا يكون هناك أخذ ورد، بل سمع وطاعة وتنفيذ في العسر واليسر والمنشط والمكره.
ومن الأمثلة الصارخة في هذا الشأن، إجبار أعضاء الجماعة على التصويت لمرشح معين في الانتخابات، لاسيما تلك الانتخابات التي لا يكون للجماعة فيها مرشحا من التنظيم الإخواني، ويضطر الفرد فيها إلى التصويت لمن لا يراه أهلا للاختيار، بالرغم من أن التصويت شهادة وأمانة، ومنح الصوت لمن لا يستحقه هو في نظر الدين “شهادة زور” منهي عنها شرعا، بنصوص قطعية وقاطعة من القرآن والسنة.
كما أن الجماعة لم تعرف في تاريخها فكرة المراجعة، ولم تكن حفية يوما ما بأي رؤى نقدية، لاسيما إذا طال النقد رموزها الكبار من أمثال حسن البنا أو سيد قطب، ثم يتسع هذا التقديس العملي ليشمل مسؤولي المكاتب الإدارية، والمناطق والشعب والنقباء.. وفي كل هذه الممارسات، لا يكف الإخوان عن ترديد كلام مرشدهم الأول: “وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك…”.