كان سعيدا لكونه فيلسوفا وسينمائيا، وفي تصريح له عده وقحا بعض الشيء، اعتبر الشعراء والأدباء عامة أسرى أكاذيبهم، فهم يحاكون المحاكاة، أما هو باعتباره فيلسوفا يمتلك مفاتيح العالم الأفلاطوني الحقيقي للأفكار، وفي سن الخمسين شعر إمبرتو إيكو برغبة ملحة في كتابة عمل إبداعي ينضم به لتلك الفئة الموصومة من جانبه وإن لم يشاركهم حالهم بطبيعة الحال لكونه فيلسوفا، فكانت روايته الأولى: “اسم الوردة”.
تعلم إيكو كما يقول أشياء كثيرة أثناء كتابتها، منها أن الإلهام كلمة سيئة، يستعملها بعض الكتاب بصورة اعتباطية ليظهروا في صورة المبدعين المحترمين، بينما الإلهام لا يغطي غير 10% من العبقرية أما 90% فمن نصيب الجهد الفردي.
الإعداد للرواية أو فترة الاختمار الأدبي بتوصيف إيكو خصصها لجمع الوثائق ورسم الخرائط وزيارة الأماكن التي تدور فيها أحداث الرواية، بل أحيانا كان يقوم بتصميم البنايات ورسم البواخر (في رواية جزيرة اليوم السابق)، وفي روايته الأولى “اسم الوردة” أنجز بورتريهات لكل الرهبان الذين جسدتهم الرواية.
يقول إيكو أن كل رواية من رواياته كانت حاصل فكرة “بدأت في شكل ذرة كانت أكبر من صورة”، فرواية اسم الوردة ارتبطت بذكرى عابرة عاشها في سن السادسة عشر، حيث كان في زيارة لإحدى الكنائس التي تعود للقرون الوسطى، ودخل إلى مكتبتها فوجد نسخة من كتاب: أفعال القديسين (موسوعة كانت ترصد حياة القديسين في الكنيسة الكاثوليكية)، تصفح الكتاب تحت ضوء كان يتسرب من الزجاج، وعلقت بذاكرته صورة راهب تسمم وهو يقرأ كتابا، وأحس بما يشبه الرهبة، لتنبعث في روحه كلما زارته الذكرى. تلك كانت الصورة البذرية، أما الباقي فقد تكون شيئا فشيئا وهو يحاول أن يعطي هذه الصورة معنى، لينبثق من تلقاء نفسه تدريجيا أثناء بحثه في أرشيف جمعه على مدار 25 عاما حول القرون الوسطى لاستعمالات أخرى.
أما في “بندول فوكو” فقد تداخلت صورتان لرسم ملامح الرواية: الأولى لبندول ليون فوكو (وهو بندول صممه فيزيائي فرنسي حمل اسمه ليثبت به حركة الأرض اليومية حول محورها القطبي) الذي رآه قبل عقود من شروعه في كتابة الرواية، أما الصورة الثانية، فهي صورته وهو يلعب بآلة الترومبيت في مراسم دفن مقاوم إيطالي، وهذا ما جعله يبدأ الرواية بقصة تتناول البندول الشهير، وينهيها بشاب يلعب في أحد الصباحات المشمسة بآلة الترومبيت بالقرب من مقبرة.
وينبه إيكو إلى أن النص “آلة كسولة” تطالب القراء بأن يقوموا هم بمهمة التأويل، “إنه جهاز الغاية منه إثارة التأويلات”، مع ملاحظة أن دراسة نص لا تعني دراسة مؤلفه، ولا ينبغي للقارئ أن يعتمد تأويلا يستمد من تصوره، بل عليه أن يتأكد أن النص يتيح له ذلك.
إن أي نص لا يكون إلا عبر سلسلة ردود الأفعال التي يستثيرها “لكن سلسلة الردود تمثل استعمالات لا متناهية للنص، وليس مجموع التأويلات القائمة على حيثيات مقبولة حول قصد هذا النص”.
ويستلهم إيكو فكرة قديمة للقديس أوغيستينوس للتعرف على الحيثيات المقبولة حول مقصد النص، حيث يمكن قبول كل تأويل ينصب على جزئية من نص ما، شريطة أن يؤكده جزء آخر من النص نفسه.
ويكشف إيكو أن تجربة الكتابة الروائية جعلته يدرك أن الرواية ليست ظاهرة ألسنية فحسب بخلاف الشعر، إذ من الصعب ترجمة الكلمات في الشعر، فالصوت رئيس في النص الشعري، بينما في العمل الروائي الأساس هو العالم الذي يقيمه المؤلف، وما يقع فيه من أحداث يحدد الإيقاع والأسلوب، بل ويتحكم في اختيار الكلمات أيضا. إن المحكي محكوم بالقاعدة اللاتينية التي تقول: حدد موضوعك بدقة، وستنقاد إليك الكلمات”.
إيكو الذي عبر عن سعادته قبل خوضه تجربة الكتابة الروائية لكونه فيلسوفا مكتفيا بهذا اللقب كان له رأي آخر بعد التجربة، إذ خلص إلى أن القصة أكثر ثراءً؛ لأنها فكرة يعاد تشيكلها إلى أحداث تعبر عنها شخصيات لتسرد في لغة محبوكة. ويفصل أكثر فيؤكد أن “الفكرة مهما بدت أصيلة، تأكد أن أرسطو توصل لها قبلك، لكن كتابة رواية حول الفكرة ستجعلها تبدو أصيلة ومبتكرة”، وهذا ما جعل الفيلسوف الإيطالي يبدي سعادة بإضافة لقب جديد إليه، وهو لقب روائي.
Mohamed.altanawy1@gmail.com