رؤى

الفارابي.. حضور ساطع في فكر فلاسفة الأندلس

الفيلسوف والمفكر المغربي محمد عابد الجابري هو من صك مصطلح “العقل المستقيل” في كتاباته للتدليل على حالة من القطيعة المعرفية الكاملة، ما بين العقل الإسلامي المشرقي العرفاني بتأثير من فلسفة ابن سينا الإشراقية، وما بين العقل البرهاني في بلاد المغرب العربي والأندلس.

هذه الفكرة هي محور العرض الشيق الذي قدمه الأكاديمي والباحث المغربي الدكتور عزيز هلال أستاذ الفلسفة الإسلامية في جامعة بوردو الفرنسية في الندوة التي دعا لها معهد الدراسات الشرقية للأباء الدومينيكان بالقاهرة. هلال اعتبر أن استنتاج الدكتور الجابري يفقتر إلى كثير من الموضوعية، إذ لا يمكن- من وجهة نظره- قراءة فلسفة إبن باجة وأبن طفيل وإبن رشد، وهو المثلث الفلسفي الأندلسي الشهير،  دون الرجوع إلى فلسفة الفارابي المشرقية، فحتى ابن رشد رغم انتقاده للفارابي إلا أنه اعتبره مؤسس المصطلح الفلسفي العربي.

ذهب هلال إلى أن كثير من الأفكار الفلسفية التأسيسية عند ابن طفيل وابن باجه ما هي إلا انعكاس لمفهوم الفارابي عما عرف بـ”الفلسفة الرابعة”، وهي عند الفارابي محاولة تقديم الأفكار والتنظيرات الفلسفية الكبرى في ثوب وأشكال أدبية فصيحة تسمح لها بتحقيق أكبر قدر ممكن من الانتشار لدى الجمهور.

وإذا تناولنا تعريف ابن باجة في أكثر من موضع لمفهوم (الإنسان) ككائن اجتماعي، نجد أن الإنسان قد يضطر لتغيير هذه الحقيقة تحت ضغط انتشار الجهل أو الفسق أو ضلال السلطة فيصير متوحدا، ومن ثم قدم لنا (تدبير المتوحد)، ذلك التعريف الذي ساق الدكتور عزيز هلال العديد من النصوص في محاضرته للتدليل على أنه مستمد بشكل كامل من فلسفة الفارابي، ومن رسالته السياسة على وجه التحديد. ودلل هلال على ذلك بما لاحظه في تقسيم ابن باجة لأنواع الفعل الإنساني ما بين فعل بهيمي خالص، وفعل بهيمي بالذات، وفعل إنساني خالص. كما رأى أن المدينة الفاضلة عند ابن باجة لا تختلف كثيرا عن تصور المدينة الفاضلة عند الفارابي، فكلاهما لا يحتاج في مدينته إلى طبيب أو قاض، فالعاقل الفاضل طبيب نفسه، والفضلاء لا يحتاجون إلى من يقضي بينهم.

وعلى الرغم من أن الفارابي لم يتكلم عن مفهوم المتوحد بشكل مباشر إلا أنه يمكن استنباطها من بين شذرات نصوصه، أما عن الفارق الأساسي بين الفارابي وإبن باجة، فهو أن ابن باجة أعاد صياغة الدرس الفلسفي للفارابي من خلال مفهوم المتوحد.

ويضيف هلال: الوضع لا يختلف كثيرا إذا تناولنا فلسفة ابن طفيل، حيث يمكننا اعتبار مؤلفه (حي بن يقظان) أفضل تمثيل لمفهوم الفارابي في الفلسفة الرابعة، فالقصة قدمت في شكل أدبي سهل وواضح الصياغة، وهي في الأساس فكرة الفارابي الذي قسم الجمهور إلى عام، وخاص، وخاص الخاص، وافترض لكل منهم لغة للتواصل والخطاب مختلفة عن الأخرى.

ويخلص الدكتور عزيز هلال إلى أن الحديث عن أي قطيعة معرفية كاملة في تاريخ الإنسانية مسألة غاية في الصعوبة، نتيجة التواصل والتأثير الحضاري المتبادل، سواء أكانت تلك الحضارات متزامنة أو متعاقبة زمنيا.

بلال مؤمن

كاتب و محرر مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock