في “مجتمع الفرجة” (مجتمع الفضائيات والوسائط الإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي)، الذي كشف عن أسراره وخباياه المفكر الفرنسي جي ديبور؛ يعيش الفرد، بحسب صورته لدى الآخرين، لا وفق ما يكون عليه، أما الصورة المصدرة عنه فيجرى إعدادها أو إخراجها حسب الحاجة، حيث يصبح كل ما يعيشه الفرد يحياه على نحو غير مباشر، أي بشكل مفبرك، وهذه الصورة المفبركة هي ما يتم تصديره عبر النافذة التي يطل منها الفرد على العالم: مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى رأسها الفيس بوك.
هذه المواقع تحدث تغييرا جذريا في هوية الفرد، ففي المجتمع القديم السابق على مجتمع الفرجة، كانت الهوية تتشكل عبر الآخرين، بمعنى أن اللقاء مع الآخر وجها لوجه ومحادثته وسماع صوته ورؤية انفعالاته واستقبال الآخر لصورة محدثه وإدراكه لها كل هذا يتداخل مع عوامل أخرى لصناعة هوية الفرد.
هذه الهوية تتعرض لتغيير جذري من خلال مواقع التواصل الاجتماعي كالفيس بوك، فالفرد في العالم الافتراضي لا يرى الآخر، ولسد نقص التفاعل البصري يلجأ إلى المبالغة في الحديث عن نفسه، ليقع في شَرك صوره نيتشه باعتباره الأفضل في أساليب التخفي، فيخفى نفسه حتى عن نفسه.
هذه المبالغة في الحديث عن النفس تدفع الفرد إلى تجاوز عامل ثانٍ كان له نصيب في تشكيل هويته الذاتية، وهو الفصل بين الخاص والعام، حيث يقتحم الخاص الحميمي المجال العام، ليُثَبّت عبره رغبة إنسانية جديدة، أسماها عالم النفس “سرج تيسرون” الحميمية الخارجية، لكن هذه الحميمية ليست سوى تمويه غير متقن على حالة العزلة التي يحياها ناشط “الفيس بوك”، ويغذيها موقع التواصل الاجتماعي، فأصدقاء المجتمع الافتراضي برغم ضخامة عددهم الذي يتجاوز المئات وربما الآلاف لا إمكانية لأن يخضب وجود أحدهم صفات الصديق بالعالم الواقعي، من يصفه أبو حيان التوحيدي في “رسالة الصديق والصداقة” بأنه: إذا غبت خلفك، وإذا حضرت كنفك، وإذا نكرت عرفك، وإذا جفوت لاطفك، وإذا بررت كافأك، وإذا لقي صديقك استزاده لك، وإذا لقي عدوك كف عنك غرب العادية، وإذا رأيته ابتهجت، وإذا باثثته استرحت”.
وفي دراسة نشرتها صحيفة الإندبندنت البريطانية أجريت على عينة تجاوزت الألف شخص، خلصت الدراسة إلى تعرض مستخدمي الفيس بوك لمستويات عالية من القلق والغيرة والحزن الذي وصل إلى درجة الاكتئاب، وأضافت دراسة أخرى نقص ساعات النوم والسمنة وخطر التعرض للنوبات القلبية إلى لائحة السلبيات.
وفي مقابل هذه التحويرات السلبية التي قد يتسبب فيها “الفيس بوك” لأعضائه، فهو يمنحهم ذاكرة قوية، هذا ما أقرته دراسة أجراها باحثون بجامعة كاليفورنيا عن تأثير “الفيس بوك على الذاكرة، حيث تبين عبر عينة الدراسة أنهم يتذكرون جيدا البوستات التي قرأوها على الـ”نيوز فييد” حتى التافهة والمملة منها.
على صعيد آخر، يرجح مجتمع الفرجة الذي أصبح يتصدره الفيس بوك الخفة على الثقل، وهو ما يظهر بشكل واضح في انتخابه لنجومه ومثقفيه، الذي يتميز نتاجهم عن مثيله لدى مثقفي العالم الواقعي بسهولة الفهم، وسرعة الاستيعاب، وإن تطرق إلى أشد الموضوعات تعقيدا وتخصصا، هم قريبو الشبه بنوع من المثقفين وصفهم عالم الاجتماع بيير بورديو بالـ “fast-thinkers” على غرار الـ “fast-food”حيث يُشعرون زبائنهم بالامتلاء رغم أن موادهم ربما تكون قليلة القيمة فكريا، بل وأصبحت معظم تلك المواد التثقيفية موجهة إلى غرض التسلية والإلهاء وملء أوقات الفراغ، وبذلك فهي تدخل بالفعل – لا عبر تشبيه بورديو- مع الأكل والنوم والعمل ضمن الدورة البيولوجية لحياة الفرد الذي يلعب دور المتلقي السلبي، لكن هذا لا يمنع من أن نقر للفيس بوك، بما يتيحه للفرد من إمكانيات بفضل حدوده المفتوحة على الآخر بكل تنوعاته، وبثورته على كل التابوهات، حيث لا تحكمه سلطة، ولا تُخضعه أيديولوجية، ولا يضبطه عرف أو تقليد.