رؤى

أزمة الليبرالية .. الجذور وآفاق الحل (2 – 2)

في الجزء الثاني من محاضرته المعنونة بـ Populism, Trump and the Future of Democracy* (الشعبوية وترامب ومستقبل الديمقراطية)، يواصل مايكل ساندل عرض المحاور التي يتعين على الأحزاب الليبرالية مراجعة سياساتها بشأنها لاستعادة مكانتها التي كانت عليها قبل ثمانينيات القرن الماضي. كما يطرح رؤية مستقبلية لما يجب أن يكون عليه الخطاب الديمقراطي الجماهيري لهذه الأحزاب.

الوطنية والمجتمع القومي

تمثل اتفاقات التجارة الحرة والهجرة نقاطا ساخنة في الغضب الشعبوي. فمن ناحية، ترتبط هذه القضايا بشكل مباشر بالاقتصاد. وإذا كان المناوئون لها يؤكدون أنها تمثل تهديدا لتوافر الوظائف وتؤثر على الرواتب المحلية ، فإن المؤيدون يؤكدون قيمتها الاقتصادية على المدى البعيد.

ولكن، بعيدا عن هذا الجدل الاقتصادي، فإن المشاعر التي تثيرها هذه القضايا تؤكد وجود خطر أكبر على المستويين السياسي والثقافي.

فالعاملون الذين يعتقدون أن حكوماتهم معنية بتوفير بضائع وعمالة رخيصة أكثر من اهتمامها بتوفير فرص عمل لمواطنيها يشعرون بالخيانة، وهو ما يولد شعورا بالكراهية ضد المهاجرين وتنطعا قوميا يدفع باتجاه اعتناق خطاب الكراهية ضد كل ما هو أجنبي.

من جانبهم، يصر التقدميون والليبراليون على إدانة خطاب الكراهية، وإبداء تقديسهم للتعددية الثقافية وقبول الآخر. لكن هذا الخطاب – برغم أهميته – يفشل في تقديم إجابة ناجعة على كثير من الأسئلة الأخلاقية التي تنطوي عليها الاحتجاجات الشعبوية، مثل: هل توجد ضرورة أخلاقية لوجود حدود بين الدول، وما هي؟ هل نحن مدينون لمواطنينا أكثر من مواطني الدول الأخرى؟ في عصر العولمة، هل السياسة الوطنية معنية بتجذير هوية وطنية أم بالتطلع إلى التأطير لمنظومة أخلاقية كونية؟

تؤكد هذه التساؤلات الحاجة إلى تجديد الخطاب الديمقراطي ليصبح قادرا على مجابهة الأسئلة الكبرى التي تعتلج في صدور الجماهير، بما في ذلك الأسئلة الأخلاقية والثقافية.

إعادة تنشيط الخطاب الجماهيري

تواجه محاولات الإجابة على هذه الأسئلة عقبة كؤدا؛ إذ تتطلب إعادة طرح فرضية مركزية جديدة لليبرالية معاصرة، والتخلي عن فكرة أن الطريق إلى خلق مجتمع متسامح يبدأ وينتهي عند ’تجنب‘ إقحام الجدل الأخلاقي والثقافي في السياسة.

ربما يمثل هذا الإصرار على  ’التجنب‘ إغراء قويا. إذ يبدو وكأنه يجنبنا مخاطر فرض الأغلبية قيمها على الأقلية. ويبدو أيضا أنه يقينا إمكانية أن تؤدي السياسة المحمومة أخلاقيا إلى اندلاع حروب على أسس دينية أو أيديولوجية. ويبدو أنه يقدم أساسا آمنا لقبول الآخر.

لكن استراتيجية ’التجنب‘، أو الإصرار على الحيادية الليبرالية، أثبتت فشلا ذريعا؛ إذ أنها في واقع الأمر تحول بين الليبراليين وبين القضايا الأخلاقية والثقافية التي تحرك الاحتجاجات الشعبوية؛ “إذ كيف يمكننا مناقشة معنى العمل ودوره في الحياة الجيدة دون مناقشة التصورات المتباينة لمفهوم الحياة الجيدة؟ وكيف يمكننا بحث العلاقة القويمة بين الهويات الوطنية والعالمية دون السؤال عن الفضائل التي تعبر عنها هذه الهويات، والالتزامات التي تفرضها علينا؟”.

إن الحيادية الليبرالية تعمد إلى تسطيح أسئلة المعنى والهوية، ومن ثم فهي لا تعي حقيقة الغضب الذي يحرك الاحتجاجات الشعبوية، ولا تفهم حالة الاغتراب الثقافي، وربما المهانة، التي يستشعرها كثير من الناخبين المنتمين إلى الطبقات العمالية والوسطى.

إن مشكلة أبناء هذه الطبقات الذين عانوا على مدار ثلاثة عقود من العولمة التي يحركها السوق لا تكمن فقط في ضعف الأجور أو خسارة الوظائف، وإنما أيضا في خسارة المكانة الاجتماعية والتقدير المجتمعي.

يفتقد السياسيون الليبراليون هذا البعد السياسي، إذ يصرون على أن مشكلة العولمة تكمن ببساطة في عدالة التوزيع؛ فالمتربحون من التجارة العالمية والتقنيات الجديدة وهيمنة القطاع المالي على الاقتصاد لم يعوضوا الخاسرين، وهو ما يكشف عن سوء فهم عميق لحقيقة الشكاوى الشعبوية، ويعكس أيضا عيبا جوهريا في السياسة العامة لليبرالية المعاصرة.

من هنا يحاول ليبراليون كثيرون التمييز بين الليبرالية الجديدة (Neo-Liberalism) التي تتمثل في مبدأ عدم التدخل في الاقتصاد (دعه يعمل laissez-faire) وفكر السوق الحر، والليبرالية التي تتجلى فيما يطلق عليه الفلاسفة “العقل الليبرالي الحكومي”؛ حيث تمثل الأولى نظرية اقتصادية، بينما تمثل الثانية مبدأ الأخلاق السياسية الذي يصر على ضرورة الحياد الحكومي حيال التصورات المتباينة عن الحياة الجيدة.

وبرغم هذا التمييز، فإن ثمة علاقة فلسفية وثيقة بين الإيمان النيوليبرالي بمنطق السوق ومبدأ الحيادية الليبرالية. يمثل منطق السوق منطقة جذب لأنه يقدم طرحا للإجابة على الأسئلة العامة محل الخلاف دون الانخراط في جدل حول كيفية تقييم السلع بشكل صحيح.

وبالمثل، تمثل الحيادية الليبرالية أيضا منطقة جذب لأنها تقدم طرحا لتعريف الحقوق. لكن السوق يظل – في نهاية المطاف – أداة غير محايدة أخلاقيا لتعريف وتحديد الصالح العام، كما يظل العقل الليبرالي الحكومي أداة غير محايدة أخلاقيا لتحقيق العدالة.

وقد أدت صياغة الخطاب العام الليبرالي على نحو يوحي بإمكانية استعارة الأحكام الأخلاقية لتطبيقها على السوق إلى خلق حالة من الخواء في هذا الخطاب، امتلأت ببدائل استبدادية أحادية غير متسامحة، أخذت أشكالا عدة مثل الأصولية الدينية أو القومية المتشددة.

هذا هو ما نشهده اليوم. لقد أدت ثلاثة عقود من العولمة المدفوعة بقوى السوق والليبرالية التكنوقراطية إلى تفريغ الخطاب الديمقراطي العام من مضمونه، وانتزاع السلطة من المواطنين العاديين، وإثارة ردة فعل شعبوية راديكالية تسعى إلى ملء الفراغ العام بقومية انتقامية متعصبة.

ولإعادة الحياة إلى السياسات الديمقراطية، يجب على الليبراليين أن يلتمسوا الوسيلة إلى خطاب عام أقوى من الناحية الأخلاقية، يحتفي بالتعددية من خلال الانخراط في الاختلافات الأخلاقية، بدلا من تجنبها.

ويخلص ساندل إلى إن صعوبة فصل الجوانب غير المتسامحة في الاحتجاج الشعبوي عن شكاواه المشروعة؛ “لكن تبقى المحاولة أمرا في غاية الأهمية، ويبقى الاستماع إلى هذه الشكاوى واستيعابها وخلق السياسات القادرة على الاستجابة لها التحدي السياسي الأكثر إلحاحا في هذه المرحلة”.

يمكن الاستماع لنص المحاضرة

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock