تتطلع قلوب وعيون عشاق الساحرة المستديرة إلى المستطيل الأخضر، فيما يركز الساسة على دوائر النفوذ والهيمنة وازدياد الشعبية.. التساؤل عن المكاسب السياسية من استضافة البطولات الرياضية الكبرى، خاصة اللعبة الشعبية الأولى في العالم، كرة القدم، يطرح نفسه بقوة مع اقتراب موعد منافسات كأس العالم 2018 التي تستضيفها روسيا نهاية هذا الشهر، والذي يراه كثير من المحللين والمراقبين أكثر نسخة من البطولة تسييسا في تاريخها، في ظل التوترات الكبيرة الراهنة بين روسيا والقوى الغربية.
الصحفي البريطاني ستيفن بوش تتبع في مقال له بمجلة “نيوستيتسمان” تاريخ بطولتين كبيرتين هما كأس العالم وبطولة الأمم الأوروبية، محاولا رصد العلاقة بين السياسة والرياضة في مثل هذه المنافسات: “استضافت فرنسا بطولة أوروبا لعام 2016، ووصلت إلى النهائي قبل خسارتها أمام البرتغال، وكانت بطولة ناجحة بكل المعايير، مع ذلك، انخفضت معدلات شعبية الرئيس فرانسوا هولاند طوال المسابقة، ولقي الحزب الاشتراكي الحاكم هزيمة مفاجئة في العام التالي. وكان الفائزون، البرتغال، أجروا انتخابات في العام السابق للبطولة، ومن الجائز أن نقول إن رئيس الحكومة أنطونيو كوستا وحزبه الحاكم ارتفعت معدلات شعبيتهم على مدار البطولة، ولكن ليس أكثر من التحسن العام في ترتيب حزبه في أعوام أخرى سابقة أو لاحقة، لذلك لا يبدو أن الفوز بالبطولة قد أعطى الحزب الحاكم دفعة سياسية إلى الأمام”.
وتابع: “استضافت البرازيل آخر مسابقات كأس العالم في صيف عام 2014، قبل الانتخابات الرئاسية. وكقوة عظمى لكرة القدم، تدخل البرازيل في كل نهائيات كأس العالم مع توقعات عالية، لكن البلاد فشلت في الاستفادة من البطولة على أرضها، بخسارتها 7-1 أمام ألمانيا. مع ذلك، بقيت المعدلات في استطلاعات شعبية ديلما روسيف رئيسة البرازيل آنذاك كما هي، وتمت إعادة انتخابها في أكتوبر من عام الخسارة المدوية نفسه”.
وفيما يخص ألمانيا التي فازت بكاس العالم قبل عام من إجراء انتخابات هناك، حققت أنجيلا ميركل صعودا طفيفا في استطلاعات الرأي التي تلت الفوز مباشرة، لكن من الصعب التأكد من ذلك، حيث إن التكتل الذي تشكل من حزبها الديمقراطي المسيحي والاتحاد الاجتماعي المسيحي انتقل من نسب فوز بأصوات الناخبين من 40 في المائة قبل الفوز بالبطولة إلى 44 في المئة بعد الفوز، وهي معدلات زيادة تقع بالكاد خارج هامش الخطأ”.
وعن بطولة أوروبا 2012 التي استضافتها أوكرانيا وبولندا، قال ستيفن بوش: “أوكرانيا، مثل البرازيل، أجرت انتخابات في الخريف التالي، وأعيد انتخاب الحكومة التي كانت في سدة السلطة قبل وأثناء البطولة. وفي بولندا, خسر حزب “المنبر المدني” الذي كان في الحكم أثناء البطولة انتخابات عام 2015، وعلى الرغم من أنهم كانوا بالفعل في مأزق سياسي عندما بدأت البطولة، لم تلعب المسابقة سوى القليل لإحياء مكانة الحزب. في الوقت نفسه تزامن فوز إسبانيا بالبطولة مع انخفاض في استطلاعات الرأي لحزب الشعب الحاكم في إسبانيا”.
وتابع: “في عام 2010، استضافت جنوب إفريقيا كأس العالم، وفازت إسبانيا (مرة أخرى)، ولم يحصل المؤتمر الوطني الإفريقي الحاكم على أي دعم في الاستطلاعات نتيجة استضافة البلاد للبطولة، فيما شهدت إسبانيا زيادة طفيفة في مكانة حزب الشعب الحاكم في عام 2010، ما يشير إلى أن فائدة الانتصار الرياضي، إن وجدت، لا تكاد تكون ملحوظة ولا تمثل أي فارق”.
بوتين وكأس العالم
وبالحديث عن كأس العالم 2018 ونتيجة للاضطراب الكبير في العلاقات بين الغرب وروسيا، على خلفية قضايا عدة من بينها التدخل الروسي المزعوم في الانتخابات الأمريكية وعدد من الاقتراعات الانتخابية في دول أوروبية، بالإضافة إلى ملف سوريا وحادثة تسميم الجاسوس الروسي المزدوج سيرجي سكريبال وابنته, يرجح كثير من المحللين أن كاس العالم سيستغل سياسيا من جانب بوتين.
تناول الصحفي أوين ماتيوس هذا الملف في مقال له بمجلة سبكتاتور البريطانية قائلا: “الأنظمة غير الديمقراطية عادة تحب الأحداث الرياضية الدولية الكبرى، هناك شيء ما يتعلق بالفكرة القديمة حيال المنافسة على المجد، التي تروق للقادة الذين يرغبون في إظهار عظمة بلادهم للعالم، ونستطيع أن نذكر في هذا السياق أولمبياد برلين 36، موسكو 80، سوتشي 14”.. لا شيء يقول: “نحن هنا، يجب أن تعتادوا على ذلك” أفضل من الأحداث الرياضية الضخمة.
واستطرد: “من غير المتوقع أن يحقق كأس العالم لكرة القدم 2018 هذا الهدف بنفس الدرجة التي تقوم بها الألعاب الأوليمبية،, لكن بالنسبة لفلاديمير بوتين، تمثل البطولة فرصة كبيرة ليس فقط لإثبات عظمة روسيا الجديدة، بل أيضا لإثبات أنه جزء لا يتجزأ من العالم المتحضر. ما يتطلع إليه بوتين، قبل كل شيء، هو الاحترام، و إثبات التواجد على طاولة الأمم الكبرى، والاعتراف من العالم بأن روسيا لم تعد فقيرة، وأن ما اعترى بلاده كان مجرد اختلال وظيفي في الإمبراطورية، لكنها عادت مرة أخرى قوة عظمى”.
على نفس المنوال، حاولت إليسا بوراك الباحثة في مركز الدراسات الأوروبية الآسيوية والروسية في جامعة جورج تاون، رصد المكاسب السياسية للنظام الروسي من استضافة البطولة، على الرغم من أنه ليس هناك تعويل كبير على المكاسب الاقتصادية من الحدث الرياضي.
وكتبت بوراك في مقال لها: “إن ما تسعى موسكو إليه هو تحسين أو تعزيز صورتها في أوساط مواطنيها وليس فقط أمام الغرب، مع التأكيد على سيادتها والتفوق من خلال إظهار أن روسيا، كقوة عظمى، قادرة على إقامة حدث عالمي المستوى دون مساعدة من الغرب الذي ينبذها وينبذ نظامها”.
و تابعت: “كأس العالم، كحدث رياضي عالمي كبير، لديه القدرة على بناء وتعزيز مشاعر كبرياء وطني بين الروس، وهذا أمر مهم على وجه الخصوص بعد حظر روسيا من دورة الألعاب الأولمبية الشتوية هذا العام. وعلى الرغم من الأداء الضعيف لفريق كرة القدم الوطني منخفض المستوى, يستخدم بوتين النزعة الوطنية التي تعززها استضافة مثل ذلك الحدث الرياضي الكبير لتمجيد نفسه وتعزيز شعبيته، على غرار ما حدث من قبل في السنة التي سبقت أولمبياد سوتشي، حيث ارتفعت معدلات شعبية بوتين بنسبة 7٪، عكس اتجاه الانخفاض لمدة ثلاث سنوات طويلة”.
وتضيف: “علاوة على ذلك، تستخدم الحكومة الروسية كأس العالم لمكافأة النخبة الداعمة لها، حيث تخلق استضافة كأس العالم “سيركًا” لتشتيت انتباه الروس عن الاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية الراهنة، وتبريد المعارضة عن طريق جذب انتباه مواطنيها بعيدا عن أوجه قصور الحكومة، مثل فشلها في إجراء إصلاحات هيكلية يمكن أن تحسن الركود الاقتصادي المحلي. كما تمثل البطولة فرصة لتعزيز الولاء في أوساط الدائرة الداخلية لنواب بوتين والنخب المحلية من خلال منحهم عقود بناء مربحة”.
وفي هذا السياق تلفت بوراك إلى أنه بعد دورة الألعاب الأولمبية في سوتشي، والتي خرجت تكاليفها عن نطاق السيطرة من 12 مليار دولار إلى 50 مليار دولار، يبدو من المرجح أن الحكومة المركزية الروسية لا تعول على المكاسب الاقتصادية من كأس العالم.
وتخلص إلى أنه إذا نجحت بطولة كأس العالم بشكل جيد، فسيثبت بوتين أن حكومته قادرة على إنجاز حدث كبير على الرغم من محاولات الغرب لتقويض نجاح روسيا. وقد يساعده هذا على تحقيق النجاح في أن يشتت انتباه مواطنيه عن انخفاض الأجور لأربعة أعوام متتالية وانخفاض معدل النمو السنوي بمعدل 1.2٪ “.
تاريخ من البروباجندا
الظاهرة قديمة، وسبق أن رصدها الصحفي المصري عبد الغني دياب في دراسة له تناولت تاريخ استغلال كرة القدم كأداة للبروباجندا السياسية: “لم تكن الساحرة المستديرة بعيدة عن متناول أنظمة الحكم الشمولية، فالزعيم الفاشستي بينيتو موسوليني الذي حكم إيطاليا خلال الفترة ما بين عامي 1922 -1943, كانت له صولات وجولات في استغلال لعبة كرة القدم في ممارساته السياسية الفاشستية”.
ويشرح دياب: “كان نظام موسوليني مصمما على استغلال نهائيات بطولة كأس العالم التي جرى تنظيمها في إيطاليا عام 1934 للترويج واستعراض الفكر الفاشستي فيما كانت الساحة العالمية تغلي ببدايات الحرب العالمية الثانية، وعمد موسوليني إلى بناء نصب تذكاري عملاق بهذه المناسبة للدعاية لبلاده ولعقيدتها الفاشستية، ورصدت كتب التاريخ أن موسوليني تدخل حتى في اختيار حكام المباريات كي تفوز بلاده بهذه البطولة الكروية في نهاية المطاف”.
ويسوق دياب واقعة طريفة في هذا الصدد عن الزعيم النازي أدولف هتلر: “أكثر القرارات السياسية المتعلقة بكرة القدم كان ما أقدم عليه هتلر مع الفريق الكروي القومي النمساوي في عام 1938، فقد كان الفريق القومي النمساوي واحدا من أكبر فرق كرة القدم في العالم آنذاك, وعندما تمكن جيش النازي من ضم النمسا إلي ألمانيا أجبر هتلر النمسا علي الانسحاب من بطولة كأس العالم وضم الفريق النمساوي إلى ألمانيا”.
وكانت كرة القدم أيضا وسيلة احتجاج ومقاومة في كثير من المناسبات، ويلفت دياب إلى واقعة شهدها كأس العالم عام 1958، عندما رفض لاعبو الكرة الجزائريون الذين كانوا يلعبون في الدوري الفرنسي الانضمام إلى المنتخب الكروي الفرنسي في بطولة كأس العالم التي جرى تنظيمها في السويد في تلك الأثناء، احتجاجا علي الاستعمار الفرنسي لبلادهم، وقرر اللاعبون الفرار من الأراضي الفرنسية وشكلوا فريقا قوميا جزائريا في خطوة رمزية على طريق استقلال بلادهم في أوائل حقبة الستينيات من القرن المنصرم.