مختارات

المخابرات الفرنسية في حروبها «الصامتة» ضد التنظيمات الإرهابية

«ألكس جوردانوف» يكشف مهامها وعملياتها السرية في كتابه الجديد

في سابقة هي الأولى من نوعها، يُطل علينا رجال الإدارة العامة للأمن الداخلي، التابعة لجهاز الاستخبارات الفرنسية، عبر صفحات كتاب «حروب الظل للإدارة العامة للأمن الداخلي»، الصادر مؤخراً عن دار النشر الفرنسية «لونوفو موند إديسيون» في 294 صفحة من القطع المتوسط، ليكشفوا لنا النقاب، وبصراحة بالغة، عن طبيعة عملهم الميداني، خصوصاً فيما يتعلق بمراقبتهم ومتابعتهم للعناصر الإرهابية، وكذلك تجنيد مصادر معلوماتهم، وسبل وآليات تفكيك الشبكات الإرهابية، وهي مهام تتم أمام أعيننا بشكل يومي، ولكن دون أن نراها أو نلاحظها.

بهذه المكاشفة، يكتسب هذا الكتاب أهمية بالغة، ليس فقط لحساسية الموضوعات التي تعرض لها، ولكن أيضاً لأن مؤلفه هو الصحافي الفرنسي «ألكس جوردانوف» المتخصص في التحقيقات والتوثيق بـ«قناة بلس» الفرنسية، الذي استمر في جمع وتدقيق معلوماته لأكثر من 5 سنوات، ليقدم لنا النجاحات غير المسبوقة للإدارة العامة للأمن الداخلي بالمخابرات الفرنسية، إضافة إلى خضوع الكتاب لعمليات مراجعة كثيرة قبل النشر، من جانب متخصصين بالإدارة العامة للأمن الداخلي، بل وصل الأمر إلى حذف فصول كاملة منه قبل النشر، لما تضمنته من معلومات لا تتسق مع طبيعة النشر، لخصوصيتها وطبيعتها الأمنية الخاصة.

ويشير جوردانوف إلى أنه بفضل الإدارة العامة للأمن الداخلي، وجهود عناصرها، نجحت فرنسا في تجنب حدوث عملية إرهابية كيميائية أشد خطورة وتدميراً من عمليات 13 نوفمبر (تشرين الثاني) 2015 الإرهابية. كما تعرض المؤلف كذلك لمرور عناصر فاعلة من منظمات الإرهاب الدولي بين يدي شبكة الأمن الفرنسية، إلا أنه في ظل إعادة ترتيب دولاب العمل داخل الجهاز الأمني الفرنسي، باءت بعض العمليات بالفشل، ولم يكتب لها النجاح، رغم حُسن الإعداد لها.

ويتعرض المؤلف لطبيعة عمل الجهاز الأمني الداخلي، وما تجابهه عناصره من عراقيل. فخلال العمل الميداني، يصطدم عناصره بعناصر أخرى تابعة لجهاز أمن منافس أو صديق، مثل الموساد أو «سي آي إيه»، هذا بالإضافة إلى رصد مساعي عناصر أمن تابعة للاستخبارات الصينية وأخرى روسية، بل يصل الأمر في بعض الأحيان إلى حدوث ما يسمى «الحرب المكتومة» بين جهاز المخابرات الفرنسية وبعض الأجهزة الأخرى، خصوصاً فيما يتعلق بملف مكافحة الإرهاب. ولذلك يغوص بنا جوردانوف بين جنبات عالم غريب لم نعرفه من قبل، كونه يعتمد على حيل قذرة، وأوامر صادرة أحياناً من جهات عليا ذات طابع سياسي، وعمليات نصب كبرى وتزوير باسم الدولة.

عملية خشب الجميز

من المؤكد أن اسم «خشب الجميز» لا يعني شيئاً بالنسبة للفرد العادي، إلا أنه يمثل في الواقع أهمية كبرى، كونه اسماً حركياً لواحدة من أهم حروب الظل الكبرى التي كان يكمن هدفها الأساسي في قلب نظام بشار الأسد في خريف 2011، إلا أنها توقفت في صيف 2017، ولم تعرها وسائل الإعلام الغربية اهتماماً كبيراً، رغم كلفتها الباهظة التي تجاوزت العديد من مليارات الدولارات، وعشرات آلاف الأطنان من الأسلحة والذخيرة التي ساعدت كثيراً قوى التمرد الفاعلة التي يرتبط بعضها بتنظيم «القاعدة»، أو تلك التي تمثل جزءاً منها، وتعد أهم عملية تهريب أسلحة في التاريخ، لتشمل 17 حكومة على الأقل لنقل الأسلحة إلى التنظيمات المتمردة أو المتطرفة بواسطة إحدى شركات الطيران (من أذربيجان)، ويقود الأنشطة العسكرية للعملية جنرال قاد جهازاً من أجهزة المخابرات الأميركية.

لقاءات مهمة

يعد ضباط الإدارة العامة للأمن الداخلي بالمخابرات الفرنسية أحد أهم مصادر المعلومات الواردة في الكتاب، إذ التقى المؤلف كثيراً منهم، بين ضباط رجال ونساء، ليتحدثوا له عن مهام كثيرة سبق أن نفذوها، مع تأكيدهم الحفاظ على هويتهم، خشية معرفة الإدارة التابعين لها، وما يترتب على ذلك من نتائج وخيمة تنعكس سلباً عليهم، قد تؤدى إلى فصلهم من العمل، وفقاً لما أكده المؤلف، ولذلك تظهر الشخصيات بأسماء حركية، مثل لقاءاته الشاب حاتم بأحد مكاتب المحاماة، وهو أحد الضباط بالإدارة العامة للأمن الداخلي الذي سبق أن خدم في الشرطة الفرنسية لمدة 12 عاماً، ثم تنقل بعد ذلك بين إدارات مختلفة تابعة للأمن الداخلي، وقضى سنوات كثيرة في التنكر كعنصر إسلامي يرتاد المساجد شديدة الأصولية والخطورة في فرنسا، كما صاحب السلفيين، وتعرف على طقوسهم وحياتهم الخاصة وأدق أسرارهم، حتى نجح في اختراق هذا المجتمع، منتحلاً صفة مدرس تاريخ، الأمر الذي مكنه من إحباط عمليات إرهابية كثيرة كادت تلقى بظلالها على المجتمع الفرنسي بأكمله.

أولويات الأجندة

يسوق لنا المؤلف بعض الأرقام المهمة، إذ لقي أكثر من 400 فرنسي و2000 أوروبي حتفهم منذ أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001 حتى الآن، على خلفية العمليات الإرهابية المختلفة، لافتاً إلى أن الإسلام الأصولي يمثل جوهر وأساس مهام المخابرات الفرنسية خلال السنوات المقبلة، نظراً لأهمية الملف سياسياً واجتماعياً، هذا بالإضافة إلى ضرورة مجابهة النشاط المخابراتي الروسي والصيني والأميركي، دون هوادة، حتى لا يمتد إلى العبث بالملف الاقتصادي.

ويشير الكتاب هنا إلى أن الروس نجحوا في تجنيد مصادر لهم في قلب السلطة الفرنسية، بالإضافة إلى النافذة الكبرى التي يفتحها الأميركيون على المخابرات الفرنسية، خصوصاً إدارة الأمن الداخلي، وتطبيقات شركة «إيرباص» الخاصة بـ«البيانات الضخمة»، ونقلها إلى شركة «بالانتير» الممولة من قبل المخابرات المركزية الأميركية. ولذلك، وفي مواجهة الأخطار الجمة المحدقة بها، فقد ضاعفت المخابرات الفرنسية من جهودها خلال السنوات العشر الأخيرة، سواء على مسار التحديات أو المهام، من خلال عناصر متنوعة، مثل الشاب حاتم أو بيير أو ماري، وهم يمثلون نماذج لا تعدو كونها تمثل أدوات لشن حرب غير منظورة، بلا هوادة أو رحمة.

اهتمامات خاصة

في إطار التحديات الكبيرة التي تجابهها الإدارة العامة للأمن الداخلي التابعة لجهاز المخابرات الفرنسي، تولي الإدارة، حسب الكتاب، أهمية بالغة إلى بعض الملفات والمناطق المهمة على النحو التالي:

أولاً: على مسار الأفكار

الاهتمام بمتابعة اليمين واليسار المتطرف، وكذلك الإسلام الراديكالي.

ثانياً: على مسار التحليل

تهتم وحدة «إتش 2» (H2) بالدول الآسيوية، إلا أن 95 في المائة من هذا الاهتمام يتوجه نحو الصين، بينما يتعلق نشاط الوحدة «إتش 3» (H3) بمتابعة الدول الأفريقية، خصوصاً أنغولا ورواندا وجنوب أفريقيا والسودان ومصر، بينما يقع عاتق متابعة باقي القارة الأفريقية على عاتق الوحدة المسماة «تي» (T)، فيما تتولى الوحدة المسماة «إتش 4» (H4) متابعة النشاط الروسي فقط. وعلى مسار الرقابة، فإن وحدة كاملة تتولى التجسس الكلاسيكي المضاد، والانتشار النووي، ومجابهة التجسس الصناعي الذي انتشر مؤخراً.

هكذا، يمكن أن نخلص إلى أننا أمام كتاب نادر من نوعه، تطرق لملفات كثيرة حساسة للغاية تكشف النقاب عن أولويات المخابرات الفرنسية، وطبيعة عملها.

نقلا عن: الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock