يناقش تشارلز آدمس، المستشرق الأمريكي في كتابه “الإسلام والتجديد في مصر” القول بأن جمال الدين الأفغاني وأفكاره الثورية حول الجامعة الإسلامية ونهوض العالم الإسلامي خلال الفترة التي أقامها في مصر بين عامي (1871-1879) كان المصدر الرئيس للحركة الوطنية المصرية والتي عبرت عن نفسها بالثورة العرابية، وهو ما انتقده عليه غالب المصريين، ذلك أن الأفغاني كان أحد دوافع تلك الحركة وليس دافعها الأساس، وأشار هو نفسه فيما بعد إلى أن الإصلاحات الأساسية التي نادى بها والتي تحتاج لقدر أوفر من الهدوء والعمق اتضحت بشكل خاص في أفكار وأعمال محمد عبده.
كتاب الإسلام والتجديد في مصر
إن الملاحظة الأولى في حركة التجديد والإصلاح التي مثلها الإمام مصرت طابع التجديد واهتمت بقضايا الإصلاح المؤسسي في المساحة التي كانت متحررة من ضغوط الاستعمار الإنجليزي، وهي مساحة المؤسسات الدينية ممثلة في الأزهر الشريف، ووضع لوائح وضوابط لمنتسبيه ومناهجه، وإعادة صياغة عقول أبنائه للتحرر من الجمود والتقاليد والخروج عن المصالح الذاتية إلى فضاء تحرير المؤسسة ممن لا يريدون لها أن تتحرر من الشيوخ والسلاطين. وقت أن تولى عبده منصب الإفتاء في 3 يونيو 1899 كان يفتي للأمة ولا ينتظر تلك المسائل التي تأتيه من المؤسسات الحكومية، كما عمل على إصلاح المحاكم الشرعية بحكم منصبه مفتيا،وعمل على الاهتمام بإحياء اللغة العربية وأسس “جمعية إحياء العلوم العربية”.
الملاحظة الثانية أن محمد عبده يؤسس لعملية الإصلاح والتجديد الديني من منطلق تخصصه ووظيفته باعتباره عالما مجددا في الدين، أي أن نظره في التجديد منضبط بتخصصه وعلمه، وهو في ذلك يمثل استمرارا لما بدأه علماء قبله استندوا إلى نفس المؤسسة وهي الأزهر، ومن منطلق تمكنهم العلمي وتخصصهم الوظيفي. كذلك كان المجددون الأوائل من الأئمة الأربعة، وسوف نرى في المستقبل حركات للتجديد والإصلاح تنطلق من التكيف مع ما يريده الجمهور والناس وليس إلى التقاليد العلمانية التي تتناقلها طبقات العلماء جيلا بعد جيل، فالإمام محمد عبده له تفسير لم يكتمل للقرآن، ونشر كتابي أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز للجرجاني، وشرح نهج البلاغة، ومقامات بديع الزمان الهمداني، وله سلسلة مقالات مجموعة بعنوان “الإسلام والرد علي منتقديه”، وسلسلة أخري بعنوان “الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية” يرد في الأولى علي هانوتو وفي الثانية يرد على فرح أنطون، نحن أمام مجدد يستند إلى أساس علمي حقيقي في موضوع تجديده وهو الدين والتدين.
فرح أنطون
الملاحظة الثالثة أن الإمام كانت جهوده الإصلاحية والتجديدية شائعة عامة في الأمة المصرية كلها، ويستفيد منها المسلمون في كل أنحاء العالم، ولم تكن قاصرة علي جماعة محددة أو تنظيم معين أو قاطع رأسي من الأمة يبدو كما لو كان انقساما فيها وتهديدا لوحدتها وليس عاملا إضافيا لتلك الوحدة، لقد كان يجتهد للأمة وليس في مواجهتها، ومن هنا كان عمله الإصلاحي واسعا شمل المؤسسة الدينية ومناهجها كما شمل إصلاح المجتمع، فهو من أسس الجمعية الخيرية عام 1892م وكان عضوا بارزا في مجلس شوري القوانين، ولعب دورا في تحويله من مجرد هيئة استشارية إلى هيئة فاعلة، وكان صحفيا في الوقائع المصرية، ثم اعتمد الصحافة كأداة من أدوات تغيير فكر الجماعة الوطنية المصرية وتغيير ما بنفسها حتي يغير الله ما بها.
الملاحظة الرابعة أن مشربه التجديدي كان واسعا نهلت منه كل التيارات التجديدية على السواء، وهو من بذر بذور بناء العقول التجديدية للمدرسة المصرية في الأزهر الشريف رغم الصعوبات التي واجهتها، فكل عقل تجديدي في الأزهر ينتمي لمدرسة الرجل ومنهجه، كما نهلت منه التيارات السياسية التي قادت الحركة الوطنية بكل تنويعاتها خاصة مدرسة الوفد التي قادها سعد زغلول، الذي كان تلميذا للرجل.
الملاحظة الخامسة أن عمله التجديدي كان ينطلق من التوحيد على مستوى العقيدة والتوحيد على مستوى توسيع الإطار الذي يعمل فيه ليشمل كل المصريين دون دخول في عمل تقسيمه لعناصر تلك الأمة، فهو واجه الاستعمار وقاومه كقوىإمبريالية غربية، وسافر إلى بلاد الغرب من أجل نصرة قضية بلاده الوطنية، وهو ناقش هانوتو وفرح أنطون حول قضايا متصلة بأهمية الدين ودوره في الحياة المصرية والإسلامية، وأنه يمكن للدين أن يكون أساسا للتحضر والنهوض، لكنه لم يدخل في مواجهة مع أي عنصر من العناصر المكونة للأمة المصرية من غير المسلمين سواء أكانوا نصارى أم يهود. وسوف نرى ذلك فيما بعد في مطلع القرن العشرين مع صعود حركات تبشيرية ذات طابع إنجيلي بروتستانتي في مصر، ومع تغذية الاستعمار لمحاولة التفريق بين العناصر المكونة للأمة، وكانت إحدى أهم فتاوى محمد عبده حل ذبائح أهل الكتاب من غير المسلمين.
محمد عبده في شبابه
تركت أفكار الإمام محمد عبده أثرها التجديدي والإصلاحي في الحركات الاجتماعية التي نهضت لمقاومة الهجمة الاستعمارية على العالم الإسلامي مع نهاية القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين، كما تركت بصماتها بقوة في المسلمين في العالم كله خاصة في إفريقيا وآسيا، ولا يزال الرجل يمثل إلهاما لمدارس التجديد والإصلاح في عالمنا الإسلامي.