رؤى

العقل والحرية في فكر الإمام محمد عبده

لقد ترتب على حالة الجمود التي سادت في الأزهر أن جاء الإمام محمد عبده (1849-1905 ) ليخطو خطوة كبيرة نحو إصلاح المعتقد الديني بتدريسه لعلم العقائد في رسالته للتوحيد مازجًا بين المعتقد الأشعري في جانب والمعتقد المعتزلي في جانب أخر “حيث أعاد محمد عبده دراسة المعتزلة تلك الحركة العقلية الإسلامية الباكرة التي رعاها في البدء الخلفاء العباسيون ثم قمعوها ، فغدت فيما بعد عنصرا خامدا في الإسلام إلى أن عادت فأصبحت منذ أيام محمد عبده أحد عناصر الفكر السني  الحديث ” .

كان الإمام محمد عبده يعي مدى خطورة تبنيه لفكر المعتزلة على المحافظين أصحاب العقيدة الأشعرية بالأزهر الشريف ، وكيف أن البعض يلصق تهمة الاعتزال بالكفر والتشكيك في عقيدة من يعتقدها ، فيقول “من الناس من إذا سألته في أمر يتعلق بعقيدة من العقائد ، أجاب بالقول ذلك كفر أو تعتزل ، وما أشبه ذلك ، وهو سلاح يتخذه المرتابون في عقائدهم ترسا يَدفعون به ما يخشون من الشبه التي تزلزل عقائدهم ، ولكن هذا الدفاع يدل على ارتياب صاحبه في عقيدته قبل الدفاع ، فإن صاحب اليقين يرتاح إلى كل ما يسمع فإن وجد عند مخاطبه شبهة أمكنه أن يزيلها ، وتلك الطريقة من الطرق في الدفاع عن العقائد هي التى أغلقت دون المسلمين أبواب العلم فكلما لاح نور إلهي في يقين الطالب يهديه إلى طلب الحق وجد هذه الكلمات كالاعتزال والفلسفة ما يخمد ذلك النور فيه ” .

وقد تعرض الإمام محمد عبده إلى الاتهامات الدائمة بأنه معتزلي ،وذلك حين قال له الشيخ عليش : “بلغني أنك رجحت مذهب المعتزلة على مذهب الأشعرية فقال عبده : إذا كنت أترك تقليد الأشعري ، فلماذا أقلد المعتزلي؟ إذن أترك تقليد الجميع وآخذ بالدليل ، وهنا يبدو الإمام رافضا الاعتراف بتقليد هذا أو ذاك ، أو أنه ينتمى إلى معتقد المعتزلة ، ولكن مراوغته في النهاية تصب في صالح المعتزلة لأنه حين يقول آخذ بالدليل ، فالإجابة تصب معظمها في أرض المعتزلة .

الشيخ محمد عليش
الشيخ محمد عليش

 ويبرز الإمام محمد عبده مدى مشروعية التأثر بالمعتزلة في رسالته باستدعاء بعض الوقائع التاريخية التى تكشف عن قدر التسامح في الحضارة الإسلامية فيقول ” كان عمرو بن عبيد رئيس المعتزلة وأشدهم صلابة في أصول مذهبه ، ومع ذلك فهو من مشايخ الإمام البخاري صاحب الصحيح ، وكانت له منزلة عند المنصور – الخليفة العباسي – تعلو على كل ذى منزلة عنده ، حتى قال يوما وهو خارج من بين يديه رميت كل الناس حَبا فلقطوا إلا إياك يا عمرو بن عبيد ، فانظر كيف كان الإمام من أئمة أهل السنة يصل سنده في الحديث برئيس رؤساء المعتزلة ، ولا يرى في ذلك بأسا، فالإمام يريد أن يقول رغم الاختلاف بين المعتزلة وأهل السنة قديما فإن العلم كان يجمع الجميع ، واتباع الدين يشملهم ، وذلك حتى يبرر للخطاب الأشعري السائد في الأزهر مشروعية التأثر بآراء المعتزلة .

إن أثر المعتزلة يتضح في فكر الإمام في نظرية العدل الإلهي ،أو ما يعرف بالحرية الإنسانية ” فكما يشهد سليم العقل والحواس من نفسه أنه موجود ، ولا يحتاج في ذلك إلى دليل يهديه ولا إلى معلم يرشده ، فكذلك يشهد أنه مدرك لأعماله الاختيارية يزن نتائجها بعقله ، ويقدرها بإرادته ثم يصدرها بقدرةَ ما فيه ، ويعد إنكار شيء من ذلك مساويا لإنكار وجوده في مجافاته لبداهة العقل ” ولا شك أن محمد عبده يعتقد أن الحرية الإنسانية والعقل الإنساني هما أساسا عملية التكليف برمتها ” وأن الذين ينكرون أن يكون للإنسان حرية عليهم أن يفكروا في معنى الأوامر الإلهية ، أيعقل أن يكون لهذه الأوامر قيمة ما ، إذا لم يكن للإنسان الاختيار في أن يطيعها أو أن يعصييها ؟ بل لقد قامت أحكام الشريعة جميعاً على هذا الأصل ، وهو أن الإنسان مسئول عن ما يفعل ، ولو كان فعل العبد البشري ليس له لبطل تكليفه ، إذ لا يعقل أن يطالب شخص مما لا يقدر عليه ، وأن يكلف بما لا أثر لإرادته فيه”.ولا شك أن الإمام محمد عبده في تأثره بالمعتزلة يمكن أن نحكم عليه في ضوء السياق التاريخي الذى عاش فيه ، حيث استعمر الغرب العالم الإسلامي ، ولا يمكن النظر إلى سيطرة المستعمر في ضوء الرضا بقضاء الله وقدره ، لذا كان على محمد عبده أن يثبت تحرير الإنسان على المستوى الأنطولوجي كأساس لتحريره على المستوي السياسي في مدونات العقائد ، وكان تبنيه لآراء المعتزلة حول الحرية الإنسانية أداة فاعلة في تحقيق غرضه في تحرير الإنسان المسلم على مستوى إرادته وفعله حتى يملك القدرة على امتلاك إرادة المقاومة لمجابهة سيطرة المُستعمر ، و تمثل قيمة محمد عبده فى قراءته الاعتزالية نهجه فى توظيف الروح التحريرية للفعل الإنسانى عند المعتزلة فى إضفاء الطابع العقلانى على العقل المسلم دون أن يغامر بدثار معتزلى كامل تحسباً للمتربصين من السلف المحافظين .

ولكى يدعم الإمام محمد عبده إقراره للحرية فيحاول أن ينفى عن عقيدة القضاء والقدر الاتهام بأنها عقيدة جبرية تؤدي إلى التواكل والجمود على مستوى الممارسة في التدين الشعبي ، وتلك الآفة لها آثار وخيمة في السلوك الاجتماعي، وبالمقابل نجد الإمام يدافع عن عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر التي ينسب لها البعض انحطاط الشرقيين ، لأنها توجهت بالأمم إلى ” الكسل” انتظارا لما سيأتي من الغيب ، ويرى أن الإيمان بالقضاء والقدر هو أداة لتحرير الإنسان مما يلم به من مصائب وآلام هي فوق طاقته ، ويهبه الصبر في مواجهة الشدائد ” فمن حكمة الله تعالى أن يدعو الأنفس البشرية للإيمان بقضائه وقدره ليكون مخففاً لجزعها إذا نزلت النوائب ، مثبتا لها عند ملاقاة المصائب ، وتجشم المصاعب فيحصل من ذلك عون لها على ذلك العدو ، فإذا هاجم اليأس قلب أمرئ من مطلوب يطلبه ، أو قامت العقبات دون مرغوب يرغبه قام الإيمان بالقضاء والقدر ، والاعتماد على معونة صاحب الحول والقوة يفتح الأبواب المغلقة ، ويذلل المصاعب الشديدة ، فيأخذ القوة من حيث أمر الله باتخاذها ” فلم يقف الإمام في نظرية العدل عند حدود إقرار الحرية الإنسانية ، ولكنه رفض فكرة جبرية الإنسان ، وسعى بكل طاقاته إلى رفع تهمة الجبرية عن عقيدة القضاء والقدر بل قدم قراءة تأويلية في كيفية تحويل الإيمان بالقضاء والقدر إلى طاقة إيجابية خلاقة في تحرير إرادة الإنسان ، وجعلها قوة فاعلة لدى الإنسان في مواجهة مصاعب الأيام ومحنها .

وإذا كان الإمام محمد عبده في قضية الحرية قد سعى إلى تحرير إرادة الإنسان فإنه في قضية الحسن والقبح يسعى إلى تحرير عقل الإنسان، حيث اتبع النهج الاعتزالي في القول بأن الحسن والقبح عقليان ، وليس شرعيين ، فالأفعال الاختيارية لديه منها ما يُحسن لجلب المنفعة ، وما يُقبح بما يجر من الضرر  ” فالأعمال الاختيارية لها حسن وقبح في نفسها ، أو باعتبار أثرها في الخاصة ، أو في العامة ، والحس أو العقل قادر على تمييز ما حُسن منها وما قُبح بالمعاني السابقة دون توقف على السمع “، ومن ثم فإن مسألة التمييز بين الخير والشر ، والحسن والقبح قد عرفها العقل البشرى ، وفرق فيها بين الضار والنافع ، وسمي الأول فعل الشر والثاني عمل الخير ، وهذا التفريق هو منبت التمييز بين الفضيلة والرذيلة ، وقد حددهما النظر الفكري على تفاوت في الإجمال والتفصيل للتفاوت في درجات عقول الناظرين ، وناط بها سعادة الإنسان وشقاءه في هذه الحياة ” .

إن إقرار الإمام محمد عبده – اتباعا للمعتزلة – بقدرة العقل علي التمييز بين الحسن والقبح- دون الحاجة إلى السمع – فيه تحرير للعقل البشري من سيطرة النص ، فكما كان الإمام في حاجة إلى اتباع رأي المعتزلة في الحرية لتحرير إرادة الإنسان المسلم في مواجهة ما يُلم به ، فإنه في نظرية الحسن والقبح تحرر عقل الإنسان من التقيد بالسمع في إدراك حقيقة الخير والشر ، والنافع والضار ، ولكي يبرر مشروعية ما قام به فإن الإمام ينسب ما قدمه للإسلام فيقول ” تم للإنسان بمقتضي دينه أمران عظيمان طالما حرم منهما ، وهما استقلال الإرادة ، واستقلال الرأي والفكر ، وبهما كملت إنسانيته ، واستعد لأن يبلغ من السعادة ما هيأ الله بحكم الفطرة التي فطر عليها ، وقد قال بعض حكماء الغربيين من متأخريهم : إن نشأة المدنية الغربية إنما قامت على هذين الأصليين ” ، فلقد استدعى محمد عبده آراء المعتزلة في قضية العدل الإلهي ، وذلك لإقرار قيمة الحرية والعقل في اللحظة التاريخية الراهنة ، ومدى حاجة المجتمعات المسلمة لذلك ، ويرى أن هاتين القيمتين هما أساس نهضة الممالك والمجتمعات الغربية .

وتدعيما لمقام العقل عند الإمام محمد عبده نجده يقر دوما بأن الدين الإسلامي هو الذى حرر العقل من كل ما يكبله ، “وأنه أطلق سلطان العقل من كل ما كان قيده ، وخلصه من كل تقليد استعبده ، ورده إلى مملكته يقضى فيها بحكمه وحكمته مع الخضوع مع ذلك لله وحده ، والوقوف عند شريعته ، ولا حد للعمل في منطقة حدودها ، ولا نهاية لنظر يمتد تحت بنودها ”  فيقدم محمد عبده الإسلام كدين يقوم على بناء عقلي متين ، وأنه لا يتعارض مع العقل ، ورأى أن ” ما ورد من كلام الأنبياء فى الإشارة في أصول الأفلاك أو هيئة الأرض ، فإنما يقصد منه النظر إلى ما فيه من الدلالة على حكمة مبدعة ، أو توجيه العقل إلى الغوص لإدراك أسراره وبدائعه ، ولغتهم عليهم الصلاة والسلام في مخاطبة أممهم لا يجوز أن تكون فوق ما يفهون وإلا ضاعت الحكمة في إرسالهم ، ولهذا قد يأتي التعبير الذى سيق إلى العامة بما يحتاج إلى التأويل والتفسير عند الخاصة ، وكذلك ما وجه إلى الخاصة يحتاج إلى الزمان الطويل حتى يفهمه العامة ، وهذا القسم أقل ما ورد في كلامهم .

ونتيجة لأثر المعتزلة الواضح على ذهن الإمام محمد عبده نجده يقر بأنه في حالة تعارض العقل مع النقل يمكن تأويل النقل بما يوافق العقل ، ولكنه يرى أن هذا التأويل غير ملزم للآخرين ” فمن اعتقد بالكتاب العزيز ، وبما فيه من الشرائع العملية ، وعسر عليه فهم أخبار الغيب على ما هو عليه في ظاهر القول ، وذهب بعقله إلى تأويلها بحقائق يقوم له الدليل عليها مع الاعتقاد بحياة بعد الموت ، وثواب وعقاب على الأعمال بحيث لا ينقص تأويله شيئا من قيمة الوعد والوعيد ، ولا ينقص شيئا من بناء الشريعة في التكليف كان مؤمنا حقا ، وإن كان لا يصح اتخاذه قدوة في تأويله ، فإن الشرائع الإلهية قد نظر فيها إلى ما تبلغه طاقة العامة لا إلى ما تشتهيه عقول الخاصة” والواقع أن الإمام محمد عبده قد اعتمد آلية التأويل في فكره بشكل واضح ، وخاصة فيما يتعلق بتفسير آيات القرآن ، فنجد الإمام محمد عبده في تفسير سورة الفيل يقدم تأويلاً لقول (وأرسل عليهم طيرًا أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول )سورة الفيل (3-5) فيقول إن هذه الآيات تدل على أن الذي حدث في جيش أبرهة هو انتشار داء الجدري والحصبة ، وقد فعل ذلك الوباء بأجسامهم ما يندر وقوع مثله ، فكان لحمهم يتناثر ويتساقط فذعر الجيش وولوا هاربين ، وقد يكون هذا التأويل العقلي المعاصر للإمام مقبولا في ظل زمانه الذى كان يتهم الإسلام فيه بأنه دين الأساطير والخرافات ، وكان الإمام يميل إلى إقرار قيمة العقل في كل شىء ، ولذا نجده حين يضع مقررات الإصلاح في الأزهر الشريف ، يطلب تقرير بعض أعمال المعتزلة في التفسير ” ففى التعليم الديني لطبقة المعلمين المرشدين في الأزهر كان يطلب تدريس(الكشاف ) للزمخشري في علم التفسير ، وهو من كتب التفاسير المعتزلية “.

د. أحمد سالم

أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة طنطا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock