منوعات

محمود عزمي.. قلم يحاصر الاستبداد

تتعامل المجتمعات الحرة مع الصحافة باعتبارها سلطة رابعة تمارس الرقابة على سلطات الدولة الثلاث “تنفيذية وتشريعية وقضائية” نيابة عن الشعب، أما في المجتمعات الموبوءة المحاصرة بداء الاستبداد فتتحول الصحافة إلى جريمة، والصحفيون إلى متهمين مطاردين، إلا أن ذلك لم يمنع القلم يوما من حصار استبداد السلطة، فتلك وظيفته ووظيفة صاحبنا محمود عزمي بطل هذه القصة.

العيب في الذات الملكية

في يناير عام 1928 ألقي القبض على الصحفي محمود عزمي، وأحالته النيابة العامة إلى محكمة الجنايات بتهمة “العيب في الذات الملكية”، عقب نشره مقالا ينتقد فيه تدخل الملك في شئون الحكم.

كان عزمي المولود عام 1889 بقرية “شيبة قش” مركز منيا القمح بمحافظة الشرقية، قد كتب في 18 سبتمبر عام 1927، منتقدا تدخلات الملك فؤاد في شئون الحكم، وضرب مثلا على ذلك بإسناده منصب العضوية بالمحكمة العليا الشرعية لرئيس محكمة مصر الابتدائية، والذي كان إماما للملك، بدلا من إسنادها إلى من تؤهله وظيفته لذلك وهو كبير المفتشين الشرعيين بوزارة الحقانية (العدل)، وكما جاء في الحركة القضائية التي عطلها الملك.

وصف عزمي في مقاله المنشور بجريدة “السياسة” لسان حال حزب الأحرار الدستوريين، موقف الملك في هذا الشأن بأنه اعتداء صارخ على الدستور الذي ينص صراحة على أن مجلس الوزراء هو المهيمن على شئون الدولة، وأن الوزراء مسئولون عن تصرفاتهم أمام مجلس النواب.

وعليه أوعز الملك إلى سلطات الضبط بالقبض على عزمي، ليحكم عليه بالحبس 6 أشهر مع وقف التنفيذ، فنقض محررنا الحكم وحكمت “النقض” بإلغاء حكم الجنايات، وقضت عليه بغرامة قدرها عشرون جنيها، وفقا لما أوردته الدكتورة نجوى كامل، أستاذ الصحافة بكلية الإعلام في كتابها “محمود عزمي بين الصحافة والسياسة”.

مقالات ذات صلة

محاولة تفجير موكب السلطان

لم تكن هي المرة الأولى التي يتعرض فيها صاحبنا للسجن، ففي عام 1914، وبعد إعلان الأحكام العرفية إثر قيام الحرب العالمية الأولى، قبض على عزمي الذي كان يعمل حينها مدرسا للاقتصاد في مدرسة التجارة العليا، وأحيل للتحقيقات في قضية إلقاء قنبلة على موكب السلطان حسين كامل، بعدما وجد اسمه في مفكرة أحد المشتبه في علاقاتهم بالحادث.

أفرج عن عزمي بأمر من حسين رشدي باشا، رئيس الوزراء آنذاك، بعد أن تأكد أنه ليس هناك صلة بينه وبين حادث إلقاء القنبلة، وبعد هذا الحادث توطدت علاقة عزمي برئيس الوزراء وعدلي يكن باشا، وزير المعارف.

كان عزمي قد عاد قبل تلك الواقعة بسنوات قليلة من فرنسا، حيث كان أحد أعضاء بعثة لدراسة الحقوق بباريس، وكون مع زملائه هناك “الجمعية المصرية” تحديدا في 1909، وعقب عودته التحق بالعمل في جريدة “العلم” التي كان يصدرها الأستاذ أمين الرافعي، على مبادئ الحزب الوطني.

وفي مطلع 1919، أسس عزمي مع عدد من المثقفين المصريين الحزب الوطني الديمقراطي، بهدف مواجهة الاحتلال، وعن مشاركته في ثورة 1919 قال عزمي في مذكراته السياسية “اشتركت في المظاهرة الكبيرة التي جمعت جميع الطوائف وسار فيها أعضاؤها بملابسهم الرسمية، وتوجهنا إلى قصر عابدين، وعندما أطل السلطان علينا هتفنا بحياة الشعب وأعلنا سخطنا على أعمال الإنجليز”.

الاستقلال” جريدة سرية”

وأثناء أحداث الثورة أصدر عزمي جريدة سرية سماها “الاستقلال”، وقامت تلك الجريدة بدور مهم في أوساط الطلبة والعمال، وظلت تصدر حتى هاجمتها السلطات وأغلقتها.

بعد تصريح 28 فبراير 1922 تشكلت لجنة الثلاثين لوضع دستور 1923، وفي هذه الأثناء تأسس حزب الأحرار الدستوريين وضم في عضويته أعضاء من لجنة “الدستور” وعددا من المثقفين والأعيان، وأصدر الحزب جريدة “السياسة” وعمل فيها عزمي محررا برلمانيا ثم سافر بعد ذلك مندوبا لها في لوزان أثناء انعقاد مؤتمر الصلح بين تركيا والحلفاء من 22 نوفمبر 1922 إلى فبراير عام 1923.

كتب عزمي في تلك الأثناء سلسلة مقالات تناقش مواد دستور المملكة المصرية، وانتقد المادة 15 الخاصة بالصحافة، والتي نصت على أن: “الصحافة حرة في حدود القانون، والرقابة على الصحف محظورة، وإنذار الصحف أو وقفها أو إلغاؤها بالطريق الإداري محظور، إلا إذا كان ذلك ضروريا لوقاية النظام الاجتماعي”، ورأى عزمي أن العبارة الأخيرة ما هي إلا استثناء يبطل مفعول حرية الصحافة تماما ويخضعها إلى ما كانت عليه في عهد التحكم الفردي.

أزمة دين الدولة

وبالرغم من وجود العديد من المواد التي تدعم فكرة الدولة الحديثة والتي ترسخ دعائم دولة عصرية في دستور 1923، إلا أن عزمي الذي تأثر بأفكار عالم الاجتماع الفرنسي الشهير إميل دور كايم أثناء دراسته بباريس هاجم المادة رقم «149» التي نصت على أن «الإسلام دين الدولة».

وذكر الكاتب طلعت رضوان في «كتاب الليبرالية المصرية قبل 1952»، أن عزمي كتب مقالا في جريدة «الاستقلال» في عدد 22 سبتمبر 1922 بعنوان «العقيدة الدينية في لجنة الدستور» قال فيه «إن ذلك النص المقرر للدولة دينا رسميا، هو ذلك الذي يريد أن يستغله أصحاب الآراء العتيقة، مضيفا: «سيأتي وقت على سكان مصر في هذا القرن العشرين، فتقطع الأيدي والأرجل من خلاف، والرجم بالحجارة ويكون السن بالسن والعين بالعين، نحن نلفت النظر وسنستمر على لفت النظر إلى الخطر المحدق الذي يجئ عن طريق هذا النص».

وبعد أن صدر الدستور واصل عزمي دفاعه عن «الأمة المصرية التي يجب أن تكون ليبرالية الفكر والسياسة»، فكتب أن: الدستور جاء «هجينا» يجمع بين الشيء ونقيضه. فالأمة مصدر السلطات، والملك له الحق مع المجلس النيابي في التشريع، ويوازن بين سلطة الملك وبين سلطة الأمة ذات المضمون الديمقراطي. وينص على أن حرية الاعتقاد مطلقة، وفى نفس الوقت ينص على أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة، وهكذا أصبحت البلاد في مفترق الطرق، وأصبح الدستور ثوبا فضفاضا ويسهل تأويله على أوجه عدة.

محمد باشا محمود رئيس وزراء مصر الأسبق

الاستقالة من “السياسة”

في 28 يونيو عام 1928 تولى محمد محمود باشا، رئيس حزب الأحرار الدستوريين رئاسة الوزراء، وبدأ مسئوليته بتعليق الحياة النيابية لمدة 3 سنوات قابلة للتجديد في 19 يوليو 1928، فقدم عزمي استقالته من جريدة “السياسة” رافضا أن يستمر في جريدة ألحق حزبها بالدستور سوءا، وقال عزمي في نص استقالته: “هل أنا هنا أجير أو أنا عامل لمبدأ؟، أما إذا كنت أجيرا فلأستمر في العمل أجيرا، وأما إذا كنت أعمل لمبدأ الدستور والحكم البرلماني الديمقراطي فمحال أن أظل بعد الساعة لحظة، والجريدة مضطرة للدفاع عن إجراء فيه اعتداء صارخ على الدستور”.

بعد الاستقالة اتفق عزمي مع توفيق دياب على إصدار جريدة معارضة لحكم محمد محمود، وأصدرا “وادي النيل”، وهاجم في الجريدة الجديدة وزارة محمد محمود، مطالبا بعودة الحياة النيابية، مفندا حجج تعطيل البرلمان قائلا: “إن الحياة البرلمانية على أسوأ صورها خير من الحكم المطلق في أحسن حالته”، وضاقت الحكومة ذرعا بـ”وادي النيل” فقررت إغلاقها.

عاود عزمي ودياب الكرة، وأصدرا جريدة “الشرق الجديد”، إلا أنها لم تستمر إلا أسابيع محدودة، وصدر قرار من مجلس الوزراء بوقفها، فسافر صاحبنا إلى لندن وباريس هربا من بطش محمد محمود، وبعد سقوط الوزارة وتأليف مصطفى النحاس باشا زعيم “الوفد” لوزارة جديدة عاد عزمي وعمل مع توفيق دياب في جريدة “اليوم”.

“جهاد” توفيق دياب

سقطت وزارة النحاس إثر فشلها في المفاوضات مع الإنجليز، وتولى إسماعيل باشا صدقي رئاسة الوزراء، وكان كارها للديمقراطية والصحافة ودستور 1923، فقرر إلغاءه، وأصدر دستور 1930، وبطش بكل صاحب رأي وألقى القبض على عدد كبير من معارضيه وقرر إغلاق ومصادرة ووقف طباعة الكثير من الصحف، فسافر عزمي إلى فرنسا وهناك أسس مع مجموعة من الطلبة المصريين “الشعبة المصرية لجماعة حقوق الإنسان”، وحصل لها على عضوية الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان، ثم سافر إلى لندن وأصدر هناك جريدة “العالم العربي” بالإنجليزية لتتحول إلى لسان حال المعارضة المصرية في أوربا، كما راسل من هناك جريدة “الجهاد” التي أصدرها صاحبه توفيق دياب، وأقنعه الأخير بالعودة إلى مصر بعد نهاية عهد صدقي، وعاد ليعمل المحرر الدبلوماسي لـ”الجهاد”.

وفي 30 نوفمبر عام 1934، صدر أمر ملكي بإلغاء دستور 1930 وحل البرلمان بمجلسيه، ودافع عزمي عن الأمر، معتبرا أنه خطوة للعودة إلى دستور 1923، إلا أن وزارة توفيق باشا نسيم راوغت ورفضت تنفيذ وعدها بالعودة إلى الإجراءات الطبيعية، فهاجمها عزمي، وطلب منه توفيق دياب أن يأخذ أجازه لفترة فلم يجد عزمي أمامه إلا الاستقالة من “الجهاد”.

“محطة “روز اليوسف

وفي 1935 أصدرت السيدة روز اليوسف جريدة يومية تحمل أسمها، وتولى محمود عزمي رئاسة تحريرها تحت أشراف المفكر عباس محمود العقاد، وكعادته هاجم عزمي وزارة توفيق نسيم بسبب تأخرها في العودة إلى دستور 1923، ووصل الأمر إلى اتهامه لرئيس الوزراء بالعمالة للإنجليز، وهو ما تسبب في حرج روز اليوسف فأعلن استقالته حتى لا يعرض الجريدة القريبة من “الوفد” لأي حرج.

علي باشا ماهر رئيس ورزاء مصر الأسبق

وفي 30 يناير 1936 ألف على باشا ماهر الوزارة، وصدر قرار بتعيين محمود عزمي مستشار صحفيا لمجلس الوزراء، وأسس عزمي في ذات العام صحيفة “الشباب”، أشاد فيها بالإصلاحات التي تقوم بها الوزارة. وما إن وقعت مصر معاهدة 1936 مع بريطانيا، حتى هاجم عزمي المعاهدة، معتبرا أنها لا تحمل في طياتها عناصر الاستقرار اللازمة للتفاهم بين البلدين، وقال “نريدها معاهدة تطلق لنا الحرية في عقدها وفي تجديدها فلا تفرض علينا فيها أبدية الحلف لأن في هذا التقييد قضاء على إرادتنا وسلبا لها”.

في عام 1937 ترك عزمي مصر، لكنه توجه هذه المرة إلى بغداد، حيث عرض عليه منصب أستاذ الاقتصاد بجامعتها فقبله، وفي آخر العام الدراسي أطلق عليه أحد الطلبة الراسبين النار فأصاب كتفه، فعاد إلى مصر ليتولى عدة مناصب حكومية.

أما عن مشوار عزمي الدبلوماسي في أروقة الأمم المتحدة وتمثيله مصر في لجنة حقوق الإنسان بالمنظمة ومشروعه للعهد الشرف الدولي للصحفيين، وموته واقفا وهو يدافع عن القضية الفلسطينية على منبر الأمم المتحدة، فهذا ما سنتعرض له في مقال قادم.

جرافيك: عبد الله محمد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock