لا أظن أن أحدا من علماء الإسلام وأئمته تعرض لمسألة تعديد الزوجات بمثل تلك الجرأة التي تعرض بها الأستاذ الإمام محمد عبده لهذا الموضوع الشائك.. مع الأخذ في الاعتبار أن عبده طرح آراءه هذه ونشرها على الناس والعلماء من نحو قرن وربع القرن، حيث كان للجمود والتقليد سطوة ونفوذ وهيمنة.
يقر الإمام أن الشريعة الإسلامية أباحت للرجل أن يجمع بين أربع نسوة، لكنه يستمسك بقوة بشرط إباحة التعديد، في قوله تعالى “فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة”.. ويمكن أن نصف موقف محمد عبده بأنه “تفعيل” لشرط العدالة، إذ إن المنظومة الفقهية التقليدية تكاد تكون قد جمدت هذا القيد القرآني.
يستعرض الإمام ما يُحدثه التعدد من مشكلات تهز استقرار الأسرة، وتقلب حياة الزوجين، ويسوق من الشواهد العملية ما يثبت أن تحقيق العدل بين الزوجات أمر بعيد المنال، ويكاد يكون استثناء.. ثم يتساءل في عبارات مشرقة: أفبعد الوعيد الشرعي، وذلك الإلزام الدقيق الحتمي الذي لا يحتمل تأويلا ولا تحويلا، يجوز الجمع بين الزوجات عند توهم عدم القدرة على العدل بين النسوة، فضلا عن تحققه؟.
يميل محمد عبده إلى التقييد الشديد لتعديد الزوجات، ويرى أن ليس من حق الرجل أن يدخل ضُرة على زوجته إلا لضرورة قصوى، كأن تصاب زوجته الأولة بمرض لا يمكن معه أن تقوم بواجباتها الزوجية.. ومع تفهمه لحق الرجل في مثل هذه الحالة، إلا أنه يعلن أنه لا يحب للرجل أن يتزوج على امرأته حتى في حالة المرض، لأن المروءة تقضي أن يتحمل ما أصابها ولم يكن لها اختيار فيه، كما يجب عليها أن تتحمل ما قد يصبه ولم يكن له ذنب فيه.. كذلك يرى عبده أن كون المرأة عاقرا يعد سببا وجيها للتزوج بامرأة ثانية.. ثم يقرر موقفه من التعديد دون هذه الضرورات بقوله: أما في غير هذه الأحوال فلا أرى تعدد الزوجات إلا حيلة شرعية لقضاء شهوة بهيمية، وهو علامة تدل على فساد الأخلاق واختلال الحواس وشره في طلب اللذائذ.
ثم يقوي الأستاذ الإمام موقفه بفهم لنصوص القرآن، يجمع بين موضعي سورة النساء: (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة) و(ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم).. ويعلق الإمام على الآيتين قائلا: “والذي يطيل البحث في النصوص القرآنية التي وردت في تعدد الزوجات يجد أنها تحتوي إباحة وحظرا في آن واحد… ومن هذه الآيات يتضح أن الشارع علق وجوب الاكتفاء بواحدة على مجرد الخوف من عدم العدل، ثم صرح بأن العدل غير مستطاع، فمن ذا الذي يمكنه ألا يخاف عدم العدل مع ما تقرر من أن العدل غير مستطاع؟”.. ثم يخلص الإمام إلى موقف جريء جدا حين يقول: “ولو أن ناظرا في الآيتين أخذ منهما الحكم بتحريم الجمع بين الزوجات لما كان حكمه هذا بعيدا عن معناهما، لولا أن السنة والعمل جاء بما يقتضي الإباحة في الجملة.
ويفض الإمام الاشتباك بين ميله الواضح إلى تقييد التعديد وبين الإباحة العامة التي جاءت بها النصوص فيقول: “وكأن مجموع الآيتين قد قضى بتحليل الجمع بين الزوجتين ديانة، وبأن الله تعالى وَكل الناس في ذلك إلى ما يجدونه من أنفسهم، فمن بلغت ثقته من نفسه حدا لا يخاف معه أن يجور، وإذا إراد أن يتزوج أكثر من واحدة أبيح له ذلك بينه وبين الله، ومن لم يصل إلى هذا الحد من الاقتدار والتحفظ من الجور حرم عليه أن يتزوج أكثر من واحدة”.
كما يرد المفتي الأكبر على من يزعمون أنه يمكن الجمع بين زوجتن أو أكثر مع رضائهن وقبولهن بالضرائر.. فيقول: “إن ما يُدعى من رضاء كل منهن بحالها فليس بصحيح إلا في بعض أفراد نادرة لا حكم لها في تقدير حال أمة، وإن وقائع المنازعات بين النساء وأزواجهن، والجنايات التي تقع بينهم مما لا يكاد يحصى، وهو شاهد على أن تعدد الزوجات مثار للنزاع بينهن وبين ضرائرهن وأزواجهن، ومصدر لشقاء الأهل والأقارب، فمن يدعي أن نساءنا يرضين بمشاركتهن في أزواجهن ويعشن مع ذلك باطمئنان وراحة بال، فهو غير عارف بما عليه حالة النساء في البيوت”.
بعد هذا التأسيس الفقهي والاجتماعي، يقدم الأستاذ الإمام موقفا واضحا يمكن البناء عليه عمليا، فيرى أن النصوص لم تجعل التحديد أكثر من كونه مباحا من المباحات، التي يمكن تقييدها بالقانون.. فيقول: “وغاية ما يستفاد من آية التحليل إنما هو: حل تعدد الزوجات إذا أمن الجور، وهذا الحلال هو كسائر أنواع الحلال، تعتريه الأحكام الشرعية الأخرى من المنع والكراهة وغيرهما بحسب ما يترتب عليه من الصالح والمفاسد، فإذا غلب على الناس الجور بين الزوجات، كما هو مشاهد في أزماننا، أو نشأ عن تعدد الزوجات فساد في العائلات، وقيام العداوة بين أفراد العائلة الواحدة، وشيوع ذلك إلى حد يكاد يكون عاما، جاز للحاكم – رعاية للمصلحة العامة – أن يمنع تعدد الزوجات، بشرط أو بغير شرط، على حسب ما يراه موافقا لمصلحة الأمة.