رؤى

غزالة: امرأة خاف منها الحجاج الذي أرعب الحجاز والعراق

تقول الأسطورة (التي تُروى عبر كتب التاريخ المهيبة) إن شبيب الخارجي عندما غرق في نهر دجلة، ألقى به النهر الى شاطئه ميتا، فأمر الحجاج بن يوسف الثقفي بشق بطنه واستخراج قلبه، «فاستُخرج فاذا هو كالحجر إذا ضربت به الأرض نبا عنها، فشُق فاذا في داخله قلب صغير كالكرة، فشُق فأصيب علقة الدم في داخله!!!»

هذه رواية المسعودي في تاريخه الشهير {مروج الذهب ومعادن الجوهر}.

إذن كان قلب شبيب عبارة عن قطعة حجر إذا ضربت بالأرض قفزت إلى أعلى كالكرة، فشقوا قلبه فوجدوا داخله قلب صغير…… وهكذا إلى نهاية الأسطورة (أو الخرافة)، وقد حفلت كتب التاريخ القديمة بالكثير من الأساطير والخرافات، وهذه قضية جديرة بالنظر والدرس في حد ذاتها، وقد أولى لها ابن خلدون الكثير من الاهتمام في كتابه «تاريخ ابن خلدون».

غزالة الحرورية

غزالة التي اشتهرت بــ«غزالة الحرورية» (نسبة إلى حرور، مكان ولادتها بالموصل)، هي زوجة شبيب ورفيقته في القتال ضد جيوش الدولة الأموية، حيث كانت غزالة تقود كتيبة من النساء المسلحات بالحراب والسيوف اللائي أبلين في القتال بلاء حسنا، وكان لهن فضل كبير في دحر جيش الحجاج بن يوسف الثقفي واقتحام الكوفة.

ففي عام 76 من الهجرة، وجه الحجاج خمسة من قادته لقتال شبيب، فكانت الغلبة لشبيب، فهزمهم جميعاً، ثم خرج من الموصل يريد مهاجمة الكوفة ومعه غزالة، وخرج الحجّاج من البصرة يريد الكوفة أيضاً، وأسرع شبيب لملاقاته قبل وصوله الكوفة، ولكن الحجّاج كان أسرع منه، فدخل الكوفة وتحصّن في قصر الإمارة خوفا من ملاقاة «غزالة» التي طلبت نزاله.

وكانت غزالة نذرت أن تدخل مسجد الكوفة فتصلي فيه ركتين تقرأ فيها سورة البقرة وآل عمران، وهما أطول سورتين من سور القرآن الكريم، وقد جاؤوا إلى الجامع في سبعين رجلاً، فصلّت فيه غزالة ركعتين وخرجت من نذرها وهي محاطة بمظاهر التقدير والاحترام، وظلّ جيش شبيب ومعه غزالة في حرب مع الحجّاج حتى هزموا له عشرين جيشاً في مدّة سنتين، وقد دخل شبيب الكوفة للمرّة الثانية على رأس ألف مقاتل ومعه غزالة على رأس مئتين من النساء، وقد تقلّدن السيوف وحملن الرماح، ووصلوا إلى المسجد الجامع بعدما قتلوا حرّاسه ومن كان فيه، وصعدت غزالة على المنبر، فخطبت فيمن حضر من المصلين، (ولعل هذه النادرة الوحيدة، على حد علمي، التي تؤم فيه امرأة المصلين).

وكان الحجاج اذا دخلت غزالة الكوفة يهرب إلى دار الإمارة خوفا من ملاقاتها، فقال فيه عمران بن حِطّان، أبياته الشهيرة التي صارت مع الأيام مثلا حتى يومنا هذا:

أسد عليّ وفي الحــروب نعامـة    ربـداء تجفل من صفـير الصـافر

هلا برزت إلى غزالة في الوغى    بل كان قلبك في جناحي طائر

(ربداء: المقصود بها نعامة سوداء مرقطة بالأحمر). جدير بالذكر أن هناك مدرسة بدمشق اسمها «غزالة الحرورية».

ضرَب الكعبة بالمنجنيق فهدَمها

في عام 73 من الهجرة (قبل حروب الحجاج، وشبيب وغزالة بثلاث سنوات)، قرر عبد الملك بن مروان التخلص من عبد الله بن الزبير، فجهز جيشاً ضخماً لمنازلة عبد الله ابن الزبير في مكة، وأمّر عليه الحجاج بن يوسف الثقفي، فخرج بجيشه، فسار إلى مكة وحاصر ابن الزبير فيها، وضرب الكعبة بالمنجنيق حتى هدمها.

يقول ابن عبد ربه في {العقد الفريد}: «…… فجعلوا يرمون بالمنجنيق فقتلوا خلقا كثيرا، وكان مع الحجاج خمس مجانيق فألح عليها بالرمي من كل مكان، وحبس عنهم الميرة (الطعام) والماء، فكانوا يشربون من ماء زمزم، وجعلت الحجارة تقع في الكعبة، والحجاج يصيح بأصحابه: يا أهل الشام الله الله في الطاعة. ثم أعلن الحجاج الأمان لمن سلم من أصحاب ابن الزبير، وأمنه هو نفسه، غير أن عبد الله بن الزبير لم يقبل أمان الحجاج، وقاتل رغم تفرق أصحابه عنه الذين طمعوا في أمان الحجاج فقتل. وكان لابن الزبير اثنتان وسبعون سنة، وولايته تنوف عن ثماني سنين، وللحجاج اثنتان وثلاثون سنة».

هدم الحجاج الكعبة، وقتل عبد الله ابن الزبير وصلبه (وهو ابن الزبير بن العوام أحد العشرة المبشرين بالجنة، وذات النطاقين بنت أبي بكر)، وأرسل إلى أمه، أسماء بنت أبي بكر، أن تأتيه، فأبت، فأرسل إليها: «لتأتين أو لأبعثن من يسحبك»، فأرسلت إليه: «والله لا آتيك حتى تبعث إليّ من يسحبني». فلما رأى ذلك أتى إليها فقال: «كيف رأيتني صنعت بعبد الله؟» قالت: «رأيتك أفسدت عليه دنياه، وأفسد عليك آخرتك، وقد بلغني أنك كنت تعيره بابن ذات النطاقين، فقد كان لي نطاق أغطي به طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم من النمل، ونطاق لا بد للنساء منه»، فانصرف ولم يراجعها.

يقول ابن عبد ربه، في {العقد الفريد}: «بعد أن انتصر الحجاج في حربه، أقره عبد الملك بن مروان على ولاية مكة وأهل مكة. وكان وإياهم وأهل المدينة على خلاف كبير، وفي 75 من الهجرة، قدم عبد الملك بن مروان المدينة، وخطب على منبر النبي صلى الله عليه وسلم، فعزل الحجاج عن الحجاز لكثرة الشكايات فيه، وأقره على العراق، فنزل بالكوفة، وكان قد أرسل من أمر الناس بالاجتماع في المسجد، ثم دخل المسجد ملثماً بعمامة حمراء، واعتلى المنبر فجلس واصبعه على فمه ناظرا إلى المجتمعين في المسجد، فلما ضجوا من سكوته خلع عمامته فجأة وقال خطبته المشهورة التي بدأها بقول:

أنا ابن جلا وطلاع الثنايا                  متى أضع العمامة تعرفوني

واستمر في إلقاء خطبته التي فيها: «……. والله يا أهل العراق إني لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها، والله لكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى…….»، وردت الخطبة، بمضمونها، وباختلافات يسيرة في النص، في مراجع كثيرة.

سفّاكا سفّاحا مُرعبا باتفاق المؤرخين

يقول الإمام شمس الدين الذهبي في {سير أعلام النبلاء}: «أهلكه الله في رمضان سنة خمس وتسعين كهلا، وكان ظلوما جبارا خبيثا سفّاكا للدماء، وكان ذا شجاعة وإقدام ومكر ودهاء، وفصاحة وبلاغة وتعظيم للقرآن، قد سُقتُ من سوء سيرته في تاريخي الكبير، وحصاره لابن الزبير بالكعبة ورميه إياها بالمنجنيق وإذلاله لأهل الحرمين، ثم ولايته على العراق والمشرق كله عشرين سنة، وتأخيره للصلوات، إلى أن استأصله الله، فنسبُّه ولا نحبه بل نبغضه في الله فإن ذلك من أوثق عرى الإيمان»

دامت ولاية الحجاج على العراق عشرين عاماً، ويقال إنه كان أوصى يزيد بن أبي مسلم، أن يُدفن سرا، وأن يخفي موضع قبره، كي لا يتعرض للنبش، وترك وصيته، وفيها قال: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به الحجاج بن يوسف: أوصى بأنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأنه لا يعرف إلا طاعة الوليد بن عبد الملك، عليها يحيا وعليها يموت وعليها يبعث….»، ويُروى أنه قيل له قبل وفاته: «ألا تتوب؟»، فقال: «إن كنت مسيئا فليست هذه ساعة التوبة، ثم إنه دعا فقال: «اللهم اغفر لي فإنهم يزعمون أنك لا تفعل.»!!!

المصادر:

المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر، جزء 3.

ابن عبد ربه. العقد الفريد.

شمس الدين الذهبي، سير أعلام النبلاء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock