بعد أن دخل نابليون مصر واستقر في القاهرة دعاه الشيخ السادات نقيب الأشراف إلى مأدبة عشاء حضرها عدد من كبار شيوخ الأزهر، وفي معرض حديثه معهم بادرهم الغازي الأوروبي بتعليق حول تفوق العرب قديمًا في العلوم والفنون بينما تبدلت الأحوال في حاضرهم، وأضحى العرب يغطون في جهل عميق، ولم يتبق من تفوقهم شيء.
وهنا عاجله الشيخ السادات قائلًا: لقد بقي لهم القرآن الكريم، وهو يجمع بين دفتيه كل المعارف.
فرد الجنرال ساخرًا: وهل يعلمكم القرآن طرق صناعة المدافع؟!
فأجاب جميع الحضور في حزم وثقة: نعم!
فبُهت مضيفهم!
لم يمتد الحوار بين الجنرال والشيوخ إلى أبعد من ذلك، وعلى قصره سجله التاريخ، ليتيح بعدها للمعنيين أن يستخرجوا الدلالات من حوار مثًل طرفاه، في لحظة تاريخية فارقة، حضارتين، أحدهما كانت تتهيأ لبلوغ ذروتها والأخرى زوت واستقرت في القاع. وإذا كان هذا حال إجابة شيوخ الأزهر التقليديين الذين عاصروا الحملة الفرنسية وما حملته من صدمة حضارية لمجتمعنا فإن إجابة الشيخ المجدد محمد عبده بعد مرور ما يقرب من قرن لم تختلف كثيرًا، فأقرت مبدأ الهروب إلى الماضي والاحتماء بمرجعياته في مواجهة الحداثة الغربية التي تباهت في صلف أمام المشايخ بمنجزاتها، ثم جاء بعدها حسن البنا ليؤطر الإجابة داخل تنظيم طمح إلى أن يترجمها على أرض الواقع ممارسة وفعلًا، لكن عوضا عن ذلك، وبعد ما يقرب من قرنين على سؤال نابليون، اقتصرت الترجمة على شعار “الإسلام هو الحل” (1987)، وواكب ذلك ظهور ترجمة تكاد تكون حرفية لإجابة الشيخ السادات التي سخر منها الجنرال الفرنسي، فذاع في الثمانينات صيت مشروع الإعجاز العلمي للقرآن تحت رعاية الدولة (وليس مصادفة أن يكون البرنامج الذي قدم الشيخ محمد متولي الشعراوي هو نفسه الذي قدم زغلول النجار رائد مشروع الإعجاز العلمي عبر التلفزيون الرسمي للدولة، وذلك في إطار تشجيعها لهذا التيار التراثي).
الشيخ متولي الشعراوي … الدكتور زغلول النجار
وهذا ينبهنا لإحدى المفارقات التي كرست لإجابة نقيب الأشراف وتتمثل في التحالف القائم بين الدولة الحديثة وأصحاب هذا التيار، وإن كان تحالفًا موروثًا، ورثته هذه الدولة عن سابقتها من خلال الارتباط بالمؤسسة الأزهرية، وهو عكس ما قام في الغرب حيث نشأت الدولة الحديثة هناك على أساس التباعد مع الفكر الديني بصفة عامة والمؤسسة الدينية بصفة خاصة.
وفي نفس الفترة تقريبًا، والتي تشبعت بالإسلامية ضمن ما عرف حينها بالصحوة الإسلامية، ظهر مشروع الدكتور حسن حنفي ” التجديد والتراث”، وإن بدا كمحاولة ” للثورة ” على إجابة الشيخ السادات، لكن على غير المراد دار مشروع حنفي الفكري في فلكها،إذ توجه بأسئلة الحاضر إلى الماضي -التراث ليجيب عنها، فكانت قاعدة الانطلاق واحدة وهي الوحي، وكذلك كان العقل واحدًا : “عقل النص” بتعبير عبد الله العروي، وهو عقل نظر واستدلال لا عقل عمل وإنجاز، ومن ثم لم يكن هناك إجابة يستطيع هذا العقل أن يقدمها على سؤال الحداثة، فهو يخاصم روحها التي أوجزها كانط في شعار: كن جريئا واستعمل عقلك أنت.
حسن حنفي
المحاولة الأخرى للإجابة على سؤال نابليون لم يكن لها ممثل في اجتماع المشايخ، لكن أتباعها اجتهدوا في الرد على سؤال الحداثة، وهم أصحاب التوجه العلماني الذين تركزت جهودهم بدرجة كبيرة في “الانسلاخ عن المقدس” بتعبير مارتن هيدجر، كأحد أهم شروط الحداثة كما حددها الفيلسوف الألماني، لكن جرى قمع أصحاب هذا التوجه بشدة، فلم تنجح محاولاتهم المتتابعة، ليس فقط لقوة الدفع من جانب التيار التراثي، وإنما أيضا لكون الحداثة كما تبدت في التجربة الغربية، كانت مسيرة شاملة ومركبة تضم السياسة والفكر والأدب والاجتماع والاقتصاد والتقنية، لتتداخل هذه العناصر وتتكامل وتتقاطع، وهو ما غفل أو عجز عن تحقيقه التيار العلماني.
الفليسوف الألماني مارتن هيدجير
لقد استعمل نابليون المشايخ لضبط البلد المحتل والتحكم فيه، ولم يعبأ بمعتقداتهم وأوهامهم بل وتماهى معها، ولازال الغرب إلى اليوم يتحكم بمجتمعاتنا، لا تصده دعاوى الخصوصية ولا تردعه صيحات الأصالة، ولا تثنيه الشعارات المعادية للتغريب، وفي حين استطاعت دول كالصين واليابان تشابهت تجربتهما مع بلدنا ومنطقتنا العربية إلى حد كبير، أن تصنعا حداثتهما فشلنا نحن، ولا يزال سؤال شكيب أرسلان: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ بعد ما يقرب من قرن، يتردد في أجواءنا الثقافية كأنه لغز أو لوغاريتم لا سبيل لحل معادلته.
مشهد لقاء المشايخ بنابليون من مسلسل نابليون والمحروسة