في مقدمتهم عن التسامح الديني في بداية العصر الحديث – كما عبر عنه توماس مور في كتابه Utopia الصادر عام (1516) – يؤكد محررو طبعة جامعة ييل لمجموعة Complete Works of St. Thomas More (الأعمال الكاملة للقديس توماس مور)، على الأهمية التاريخية لكتاب مور للقارئ المعاصر الذي يواجه ما يصفونه بالأدلة الواهية على التسامح الديني في هذه الفترة، كما يؤكدون أن موقف مفكري أوربا في القرن السادس عشر من التسامح الديني لا يزال بحاجة إلى مزيد من الدراسات والمراجعات.
تكشف إشارة محرري هذه الطبعة أيضا عن الفارق الجوهري بين مفهوم التسامح الديني في بداية العصر الحديث ومفهومه الحالي كمبدأ أساس من مبادئ المجتمعات التعددية. كما يسلطون الضوء على ما يبدو موقفا متناقضا للكاتب من هذه القضية في كتابه Utopia في عام (1516) عنه في كتاباته اللاحقة.
فكتاب Utopia يرسم ملامح مملكة نموذجية – أو مدينة فاضلة، كما يوحي بذلك عنوان الكتاب – يستطيع كل فرد فيها “أن يتبع الدين الذي تمليه عليه إرادته الحرة، وأن يمارس الدعوة إليه ومحاولة إقناع الآخرين به على نحو سلمي، ودون غلو أو تطرف، أو إضمار مشاعر حقد أو كراهية ضد الآخرين”.
رغم ذلك، فقد حمل مور – السياسي المحنك والكاثوليكي الروماني المخلص – بقوة ضد حركة الإصلاح الديني التي قادها مارتن لوثر، ولم يبد تجاهها أي شكل من أشكال التسامح التي دعا إليها كمفكر ومصلح اجتماعي في مدينته الفاضلة. ثم كان هو مور نفسه الذي أكد لاحقا في كتاباته الجدلية في حقبة ما بعد الإصلاح الديني أن “رجال الدين لا يرتكبون خطأ عندما يدعون أمر تصفيف الشعر، وتزيينه لأيد علمانية”.
وبرغم تربع كتاب Utopia على عرش الأدبيات التي تدعو إلى التسامح الديني، إلا أن ما حوته كتابات مور اللاحقة من دعوات سافرة إلى الاضطهاد على أساس ديني، وسياساته القمعية في أعقاب ظهور وثيقة 95 Theses (القواعد الخمس والتسعون)، التي كتبها مارتن لوثر إلى الكنيسة الكاثوليكية في عام 1517، قد جعلت دراسة أفكاره التسامحية التي ضمنها كتابه Utopia شكلا من أشكال الإشكالية العلمية. وأصبح ثمً سؤال يستعصي على الإجابة، أو يكاد: كيف يدافع مور عن فكرة التسامح في مدينته الفاضلة، ثم يدافع عن الاضطهاد في كتاباته اللاحقة المثيرة للجدل؟
تقدم نصوص مور رؤى متناقضة لا سيما عندما يتم التأطير لها في سياق مبادئ التسامح التي أقرتها الحركة الإنسانية في بداية العصر الحديث. فنموذج التسامح الإنساني في القرن السادس عشر يسمح لهؤلاء الذين يختلفون مع بعضهم البعض في أمور الدين بتعليق الأحكام أثناء إجراء المناقشة، من أجل منح الفرصة للإقناع من خلال حوار عقلاني هادئ.
إلا أن مور – في بعض الأحيان – يرفض مبدأ الحوار في الأمور المتعلقة بالخلافات الدينية؛ حيث يحد حدودا للتسامح مع ’الهراطقة‘. ففي كتابه Debellation of Salem and Bizance الصادر عام (1533) – على سبيل المثال – لا يبدي مور أية رغبة في قبول تعايش بين الكاثوليكية الرومانية والطوائف المارقة، حتى لفترة مؤقتة من أجل إقناعهم بالرجوع عن أفكارهم الضالة عبر حوار عقلاني.
رغم ذلك، يؤكد مور على قيمة الحوار في نصوص أخرى. ففي كتابه Dialogue Concerning Heresies يقدم مور نموذجا مثاليا لحوار عقلاني بين رئيس القضاة المحافظ والرسول اللوثري المتمرد والضال. وبينما يُخرج مور بعض الهراطقة ممن يمارسون الدعوة إلى أفكارهم من دائرة التسامح وقبول الآخر، يُبقى آخرين داخلها ما داموا قابلين للمحاورة والإقناع.
وقد شارك مور من خلال منصبه كرئيس للقضاة في قمع الهرطقة بقوة، بينما عبر في كتابات أخرى عن تعاطفه مع الهراطقة باعتبارهم ضحايا لأفكار خاطئة، وأكد: “إنني لا أكره شخوصهم، وإنما أمقت الرذائل التي يؤمنون بها”، وأعرب عن أمنيته العميقة في “الحد من الآثار الضارة للبدع على من هم تحت تأثيرها”.
وكرجل دولة، شارك مور في إجراء تحقيقات موسعة مع عدد من المصلحين، من أمثال توماس هيتون وجون فريث، وإصدار أحكام بحقهم. كما أمعن في التضييق على أصحاب المطابع وباعة الكتب الذين نشروا أعمالهما. وفي الأمور المتعلقة بأمن البلاد، لم يبد مور أي تسامح مع أناس “لن يثوبوا إلى رشدهم”. ففي رسالة بعث بها إلى الفيلسوف، دسيدريوس إراسموس – أحد رواد الحركة الإنسانية – في عام 1533، أبدى مور قلقه مما “سيعانيه العالم على أيدي هؤلاء”.
وتبرز الصورة التي رسمها مور في هذه الرسالة للمسيحيين الأبرياء حال معاناتهم من الآثار الروحية والاجتماعية الوخيمة للتسامح مع الهرطقة البروتستانتية جذور التوجه السلبي الذي تبناه الفكر الغربي في بداية العصر الحديث ضد التسامح الديني.