ثقافة

أدونيس وعصفور وعبد الحميد في حضرة «الهائم في البرية».. الجمال ينتج المعرفة

حشد مميز من القامات الأدبية الرفيعة شهد أمسية دار “العين”  للاحتفاء بتوقيع ديوان “الهائم في البرية”، للشاعر عبد المنعم رمضان، الذي ناقشه الناقدان: د.جابر عصفور، ود.شاكر عبد الحميد، بحضور الشاعر السوري الكبير أدونيس، وقدم الأمسية أشرف يوسف.

عبد المنعم رمضان أحد أبرز شعراء جيل السبعينيات، ولا يزال يركض بكتابة الشعر في مواجهات ما يجري في واقعنا الثقافي والسياسي، بالتغريد خارج السرب، وقول كلمته، لذا جاء ديوانه “الهائم في البرية” بعد ست سنوات من آخر ديوان نشر له تحت عنوان “الحنين العاري”.

احتفى الشاعر أشرف يوسف بحضور الشاعر الكبير أدونيس معربا عن سعادته بهذه اللفتة التي اعتبرها تقديرا للشعر والشعراء، وعلى رأسهم الشاعر “عبد المنعم رمضان”.

وقال: في ظل الظروف القلقة التي تخص حالة النشر في مصر، نحتفي اليوم بأبرز الشخصيات الشعرية في مصر والوطن العربي من جيل السبعينيات

ثم أنشد أبياتا من قصيدة عبد المنعم رمضان (تحذير من الكابوس):

لا تقف هكذا

أنت تشبه حبة قمح

تنام بلا غيمة

وبلا سنبلة

الجنود الذين وراء حدود المعسكر

سوف يرون انقسامك نصفين

سوف يرون على كتفيك هواء ثقيلا

وسوف يرون على شفتيك دموعا وأغنية مسدلة

لا تقف هكذا.

وأشار يوسف إلى بعض المقتطفات النقدية عن تجربة “رمضان”، بدأها بمقتطف للناقدة اللبنانية “خالدة سعيد” .

من جانبه، رحب “شاكر عبد الحميد”  بحضور “أدونيس”، ووصفه بأنه “غني عن التعريف، وتربينا على يديه”، معربا عن سعادته بالمشاركة في هذه الأمسية “في حضور قامتين مثل عبد المنعم رمضان، وأدونيس”.

وأضاف، لا يمكنني إلا أن أقول أنني تربيت على كتابات أدونيس بدءًا من “مهيار الدمشقي”، “هذا هو اسمي”، “زمن الشعر”، “الثابت والمتحول”، “الصوفية والسوريالية”. واصفا كتابات أدونيس النثرية بأنها “كتابات شعرية بما تحويه من الدفقات والاحتشاد والحضور بالصور”.

ورأى أن عنوان “الهائم في البرية” هو عنوان دال له إحالات ودلالات في القرآن، وفي دواوين  الشعر، فقصيدة “ميتة عصرية” لأمل دنقل جاء فيها هذا المقطع “من ذلك الهائم في البرية”. وقال إن الهائم هو شخص هام على وجهه، خرج لا يدري أين يذهب، صار على غير هدى، والهيام أنواع منها ما هو متعلق بالتجوال والحركة في المكان، الانتقال من مكان إلى آخر على غير هدى، ومن الهيام ما يعني شدة العشق، والحب الذي يقتل صاحبه، كما أن له معنى ودلالة أخرى هي الاضطراب.

وقال عبد الحميد: هذا الديوان من وجهة نظري ترتبط حركة البرية فيه بعالم المدن والحداثة، فالأماكن الحديثة وخصوصًا المدن أماكن تسكنها روح قلقة وربما مريضة ومنقسمة ومتعددة، وهكذا تعج المدن الحديثة بالهائمين على وجوههم، وكذلك بالمتسكعين، فالهيام لا يعني التسكع، لكن فقدان للغرائبية، والهائم يعتبر المدينة مكانه الخاص، وهي التي تصير متاهة يضيع فيها الهائمون، ويتحولون إلى أشباح يسكنون ليل المدن.

وأضاف: الهائم في هذا الديوان لم يكن مجرد زائر يقوم بمراقبة الجموع كما حال المتجول لدى “بودلير”، أو مهتما بالأضواء كما حاله عند “فالتر بنيامين”، لقد أصبح الهائم هنا روحًا أو شبحًا يتجول، قد يحد وجوده مدينة واحدة “القاهرة”، وقد تحلق روحه في العالم كله كما الحال عند “رامبو”.

وأشار إلى أن الروح الموجودة في “الهائم في البرية” هي روح قلقة ومنقسمة، تسكن عالم المدن، عالم الروح والأحلام والكوابيس والظلال، مع حضور خاص له أجواء الممرات والغرف والمقابر وتطايرات الصور والأفكار، وشعور واضح ومهيمن ولافت بحالة الوحدة في صور كثيرة، وبالغياب والتوهمات وبرفرفة أجنحة السراب والشموس التي تطلع في قلب الظلام بالمعنى الصوفي الموجود، مثل الصعود من عالم إلى عالم، وعالم الأسرة والعلاقة بالأم تحديدًا، والحاجة إليها كرمز مقابل من الوحشة والغياب والشعور بالقلق والحيرة والشك والالتباس وفقدان اليقين، كل ما يتعلق بحالة الهيام والتجوال.

وتابع: هذه الحالة من التجوال مرتبطة في الأدب والنقد الحديث بحالة التشرد التي أشار اليها الناقد المصري الراحل “إيهاب حسن” في بعض كتاباته وحواراته عن “سليمان رشدي” و”بول أوستر”، وقال أن التجوال الأهم عند “بول أوستر” وعند “كافكا” هو تجوال داخلي. هذه المقاربة تصلح تماما مع ديوان “الهائم في البرية” فالتجوال الداخلي أكثر منه خارجي، تلك بعض ملامح هذا العالم وله تأكيداته.

 وأضاف: ثمة محاور قليلة بدءًا من “الذات المتكلمة”، وهو مصطلح يرجع إلى “جوليا كريستيفا” يعبر عن حالات شتى لروح قلقة تزدحم فيها المخاوف والهواجس والرغبات، والصراعات، وتكون في أحوال كثيرة غير قادرة على الحسم، وغير راغبة فيه، لأنها تتوق غالبًا إلى العيش في هذه الحالة البينية، الحالة الهامشية والحدود الخاصة القائمة بين الوعي واللاوعي، بين اليقظة والنوم، الحياة والموت، لذا تظهر تمثلات كثيرة في الديوان منها أظن، أشتهي، رأيت، كأن، وتردد كأن في قصيدة واحدة عشر مرات، تأتي كحرف أو كلمة على حسب سياقها، وهى تعني التشابه والاختلاف في آن واحد، وهى إحدى أدوات الالتباس والشك. كما نجد في الديوان مفردة “الحلزونة” وهي تصغير للمتاهة، ونجد المتاهة تصل بصاحبها إلى العدم، الشك، الموت.

وأشار شاكر إلى أن هذه الحالة من الشك وفقدان اليقين والحيرة الريبة والالتباس والغياب للحقيقة، ترتبط بعالم الظلال الموجود داخل الديوان، فالذات المتكلمة تتحدث عن ظلها وظلال الآخرين، وفي قصيدة حلم في منتصف الليل: “وها أنا ذا مثل ظلين أجلس كالليل في غرفتي، أشتهي أن أكون وحيدًا على حافة النور أو على حافة الكائنات”.

وأضاف: الظل يرتبط بالذات المتكلمة، وقد يرتبط بآخرين كظل “السيدة العذراء “ذات الظل الواسع في مرثية “مينا”، أو المرتبطة بالحب والشغف في قصيدة “مها” ذات الظل المائل والنشوان. وقد يصبح الظل ظلين أو يتعدد، أو يصاحب الذات المتكلمة، هكذا تكلم “زرادشت” الحديث بين الظل وزرداشت. فالظل في “الهائم في البرية” مرتبط بالوحدة، في قصيدة “ذات مساء” اقتربت من النهاية نجد فيها، “أصبحت رجلا وحيدًا بغير ظلال الآن وأنا هائم”.

وختم بالحديث عن مشاعر الوحدة الموجودة بديوان “هائم في البرية”: هناك شعور مهيمن وجارف وطاغ بالوحدة، مسيطر على عناوين القصائد، منها “أقف وحدي”، و”أمشي وحدي”، “أحاول وحدي”، “فراش شاغر”. وفي قصيدة “أمشي وحدي” رصد العالم ليل القاهرة، وفيه صور مرتبطة بالتجوال في القاهرة، وهناك صور لاستدعاء صورة الأب “رأيت أبي يتوضأ في صمت محبوس، ” كدت أصب النار على بعض مواريثي”، “كدت أصب النار على بعض خلاياي”، “أحاول أن أجتاز مصيري”، ثمة صورة للأب وأخرى للأم وتبقي صورة الأم أكثر حضورًا.

الأب كما هو واضح في القصيدة، يشير إلى السلطة والماضي، وهو مرتبط بالماضي والقديم والتراث والقيود، وكل ما هو ضد الحرية، ورغبة ما في التمرد الذي لم يحدث والذي ظل مجرد رغبة، البديل الأقرب هنا للشاعر هو تذكر الأم المحاطة بالجلال والتقدير والاحترام. أما صورة الأم فهي تعني بشكل غير مباشر الوطن، هذه الحالة من الهيام والمتاهة والتجوال، هي التي جاءت لنا بـ”الهائم في البرية”.

بدوره، رأى الناقد جابر عصفور أن مشكلة شعر “رمضان”، أنك لا تقرأ مجرد كلمات بل معاني ودلائل، تأتي مع بعضها البعض تداعٍ غير مقصود، لماذا “كافكا” كونه مثلا يعاني من عالم كابوسي؟. وأضاف: لدينا مجموعة من التداعيات يجمعها منطق داخلي، هو منطق اللاشعور، لابد من قراءة رمزية، ومحاولة قراءة القصيدة كزجاج معشق الزجاج وما وراء الزجاج، بمعنى التركيز على الكلمات وما تثيره، والرسالة التي تصل إلى المتلقي بطريقة منطقية، باختصار هذا ما نسميه طريقة الحداثة.

وتابع: في قصيدة “كافكا”، هي شبه الحلم تتحدث عن أشياء لا يمكن أن تحس أنها موجودة بالواقع، ولا علاقات منطقية تربطها، وعلينا قلب العلاقات وقراءتها بطريقة رمزية وقتها سنفهم منطق الدوال.

وأضاف: القصيدة الأولية هي التي تشد انتباهي، أولها ما يربط بينها كدوال تتجمع في مجموعات وما تثيره من رموز وصور، وعليه عمل علاقات رمزية بين هذه الصور والرموز، أصل إلى معنى القصيدة بالنسبة لي ، وقد تختلف من فرد لآخر، قد تسود اللامنطقية بحيث تصعب القراءة، هناك قصائد أخرى القصيدة تشف أحيانا، ولدينا حالات منها القصائد التي تتحدث عن الكابوس ، “لا تقف هكذا أنت تشبه حبة قمح، تنام بلا غيمة وبلا سنبلة، الجنود الذين وراء حدود المعسكر سوف يرون انقسامك نصفين، سوف يرون على كتفيك هواء ثقيلا، وسوف يرون على شفتيك دموعا وأغنية مسدلة، لا تقف هكذا”.

ورأى عصفور أن: هذا النوع من القصائد معتمة كافكاوية، أنت أمام كائنات ليست لها معنى لذا قصيدة “رمضان” هي قصيدة حداثية، لا تركز على ما يقال ولكنها تركز على كيفية القول. لو ذهبنا إلى “أبو حيان التوحيدى” ستجد له عبارة يقول “أفضل الشعر هو ما قابل النثر”.

وأكد لو ركزنا على حركة الدوال، علينا أن نعرف أن لهذه الدوال مدلولات، هذه الدوال عبارة عن ظاهر النص الذي له باطن، بلغة أخرى أكثر القصائد لها علاقات حضور، وكل علاقات الحضور تبني لها علاقات غياب، وأمام هذه الثنائية في شعر رمضان بالضرورة تدخلنا في “التراث”، ترجع إلى أمل دنقل التي أخذها من محمد الماغوط، وقد أخذها الماغوط عن التوراة، وهذا النص يسمى كتابة نص على المنصوص، وهذا لإدراك عملية التناص ونحن بدورنا نشارك فيه.

وواصل عصفور: كان رمضان في مرحلة مبكرة من حياته متأثرا بأدونيس، يأخذ من رموزه في الشعر، وأنا كناقد أدين لأدونيس في أشياء كثيرة جدا، فكل أفكاري عن الحداثة  أخذتها منه. والسؤال الذي يجب أن نطرحه هل هناك جديد في هذا الديوان؟ وأجاب عصفور: الجديد هو وطأة الإحساس بالذنب، وهذا لم يكن موجودا في شعره من قبل.

 واختتم “أدونيس” المتحدثين في الأمسية، مستهلا حديثه بالقول: يمكنني الحديث عن وضع الشعر العربي بما يتعلق بسؤال كيف ينتج معرفة، فالمجتمع العربي منذ سقوط بغداد إلى اليوم لم ينتج أي معرفة تضاف إلى المعارف التي بدأت بابن رشد والفارابي وابن خلدون وتوقفت مع الخلافة العثمانية حتى سقوطها، وحلت محلها دول الشمال الأوروبي، ومنذ نصف القرن الثالث عشر لم ننتج معرفة، لم نؤسس جامعة عربية واحدة ذات مستوى عالمي. وتساءل: “ماذا يعني الإبداع، نسأل عن دور المثقفين، ولا نعترف بهم، فيما نطالبهم أن يقوموا بأدوار”.

وأضاف: ما أطمئن إليه في قرائتي لشعر “رمضان” أن هذه المرحلة بدأت مع الفنانين التتشكيليين والشعراء والروائيين وكل ما ليس له مرجعية في الماضي بشكل خاص، لذا بدأت تنتج شكلا مختلفا وجديدا. يلفتني في “رمضان”  أن العلاقات التي يقيمها بين الكلمة والشيء، تنتج جمالا آخر على مستوى هذه العلاقة بين والقارئ وما يقرأ، شهادتي تعني أن رمضان ينتج جمالا جديدا، والذي ينتج جمالا جديدا ينتج معرفة جديدة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock