منوعات

التقدم إلى الوراء التكنولوجيا تنذر بفناء البشرية (2 – 2)

في الجزء الأول من كتابه New Dark Age: Technology, Knowledge and the End of the Future (العصر المظلم الجديد: التكنولوجيا والمعرفة ونهاية المستقبل) عرض جيمس بريدل للجوانب النظرية من أزمة الانقياد الأعمى للبيانات التي أدت إلى “خروج العالم عن نطاق فهمنا وتحكمنا”.

في الجزء الثاني يطرح بريدل حلولا عملية في محاولة لرسم خارطة الخروج من هذا المأزق الوجودي.

يرى بريدل أن الخطوة الأولى على طريق التصدي لهذه الأزمة تتمثل في نبذ كل ما ينطوي على ما يسميه “التفكير الحاسوبي”، الذي يصر دائما على اللجوء إلى الإجابة السهلة، وهي: “ما يتم جمعه كبيانات يتم نمذجته على أنه حقيقة الأمور، ثم يتم تطويره في ظل افتراض ضمني بأن الأمور لن تتغير بصورة راديكالية أو تتحول عن سيرتها الأولى”.

تكمن المشكلة في أننا ألِفنا هذه المنهجية في التفكير حد الإدمان.  في هذا السياق يقارن بريدل بين “تعطشنا الشديد للبيانات” و”تعطشنا الشديد للنفط”، فكلاهما نهمان لا يشبعان، ومدمران لا يُبقيان.

ربما يبدو التشبيه هشا، كما يقر بريدل في مرحلة لاحقة من الكتاب. فالمعلومات – على عكس النفط – لديها القدرة على أن تكون موردا مفتوحا ومتجددا ولا متناه. رغم ذلك، فقد تحولت اليوم إلى أي شيء غير ذلك. فعادات استهلاك البيانات التي تسيطر علينا في الوقت الراهن تبطن تكلفة بيئية باهظة. وكما يشير بريدل: “عندما تزداد سرعة الثقافة الرقمية، ويتضاعف نطاقها الترددي، ويستفحل اعتمادها على الصور، فإنها تصير أفدح ثمنا وأشد تدميرا”.

ومهما كانت صعوبة تغيير هذه الثقافة، فليس أقل من أن نبطئ إيقاع ممارستنا المتطرفة لها، وأن نكبح جماح اندفاعنا المجنون ورائها. يمثل هذا السبب الأساس في رواج نوعية معينة من الكتب، مثل الكتاب الأكثر مبيعا The Organized Mind: Thinking Straight in the Age of Information overload (العقل المنظم: التفكير القويم في عصر التحميل الزائد للمعلومات)÷he Organised Mind: Thinking Straight in the Age of Information overload حول عن سيرتها السابقة”. ، لعالم الأعصاب الأمريكي الكندي، دانيل ليفيتين، الذي يقدم فيه نصائح عملية وإستراتيجيات ناجعة لإدارة عالمنا المتخم بالبيانات بفاعلية أكبر.

يشتبك كتاب New Dar Age بقوة أيضا مع هذه القضية، فيرسم خطا مستقيما يربط بين شبكة الإنترنت وقصة The Library of Babel (مكتبة بابل)، وهي قصة قصيرة تعرض لمكتبة خيالية لا نهائية للأديب الأرجنتيني، خورخي لويس بورخيس. يهدف بريدل من وراء هذا الربط إلى الدعوة إلى تأسيس “فئات وهيئات جديدة ومختلفة جذريا يمكن أن تساعدنا في الاستفادة من أنظمة المعلومات المتشابكة والمتداخلة”.

لكن.. مَن المنوط باختيار نظام التصفح؟، أو – بتعبير بريدل – “مَن أمناء المكتبة الجدد؟” ربما تخمد ردة الفعل القوية التي أثيرت ضد شركة Big Tech بعد فضيحة كامبريدج أناليتيكا (حيث ذكرت شركة فيس بوك أن شركة كامبريدج أناليتيكا للاستشارات السياسية يمكن أن تكون قد حصلت بطريقة غير مشروعة على معلومات شخصية لما يقدر بنحو 87 مليونا من مستخدمي فيس بوك). لكن شيئا جوهريا لم يتغير. وستحتفظ شركات فيسبوك وجوجل وأبل وأمازون بقوتها، وسيبقون حراسا غير نظاميين للمكتبة اللانهائية التي رسمها بورخيس، رغم أنهم اثبتوا مرارا وتكرارا أنهم ليسوا أهلا لثقتنا.

يعيدنا هذا مجددا إلى قضية عدم اليقين التي عرض لها الكتاب في جزئه الأول (وعرضنا لها في المقالة الأولى). إن خوف الإنسان من الظلام ليس مطلقا، وإنما يرجع إلى سبب ما؛ فالإنسان يخاف تحديدا عندما يكون معصوب العينين بينما يستطيع من حوله الرؤية.

عند هذه النقطة يصطدم تفكير بريدل بعقبة كؤود. ففي جزء لاحق من الكتاب يعترف بريدل أن التكنولوجيا “محرك أساسي لعدم المساواة في قطاعات عديدة”، وأن أحد أهم أسباب ذلك هو “الغموض الذي يكتنف الأنظمة التكنولوجية نفسها”. جميعنا يعرف أن المعرفة أحد أهم أسباب القوة، وعلى مدى التاريخ وقع من لا يمتلكونها فريسة لاستغلال من يمتلكونها.

في الفصل الافتتاحي، يقتبس بريدل من الروائي الأمريكي، هوارد فيليبس لوفكرافت: “…يوما ما سيفتح تجميع المعلومات المتشظية آفاقا مرعبة على الواقع، ولن يؤهلنا موقعنا المتردي من الإصابة بلوثة عقلية جراء ما تكَشًف لنا، أو الهروب من النور المميت إلى سلام وأمان عصر مظلم جديد”.

برغم ما ينطوي عليه هذا الاقتباس من إيحاءات مروعة، يبقى السؤال: كيف يمكننا الاستفادة بهذا ’السلام والأمان‘؟ إن لوفكرافت يعلم يقينا أن الإنسان عندما اكتنفه الظلام راح يملأه بالإيمان بالخرافات. وفي تاريخ أوربا، يطلق على الفترة الأولى من العصور الوسطى اسم ’العصور المظلمة‘.. تلك الحقبة التي أثخنتها حروب باسم الدين وصراعات باسم المدنية أدت في النهاية إلى انهيار حضاري ساحق.

ربما يرى الذين يميلون إلى سردية نهاية العالم تشابهات بين سرديتهم وعصر ما بعد الحقيقة الذي نعيشه الآن، حيث تبدو مجتماعاتنا أكثر استقطابا، وأكثر إيمانا بالقبلية والإثنية والقومية. ويمثل التصويت لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي، وفوز دونالد ترامب بانتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة مجرد أعراض جديدة لتوجه قديم يتغذى على إحساسنا المزمن بالقلق.

ورغم محاولات بريدل لسبر أغوار المشهد الآني، إلا أنه يفشل في تقديم أسباب مقنعة وراء تفضيل الإنسان ’حالة عدم اليقين المثمر‘ على ’حالة الظلام‘ التي تتلاعب بها الشركات المتعطشة للربح والجماعات المتطرفة ومنظمات التحريض عبر الإنترنت.

رغم ذلك، يبقى كتاب “العصر المظلم” محاولة شجاعة تدق نواقيس الخطر حيال تهديد وجودي ينذر بفناء الجنس البشري، وتطرح حلولا للتحرك على صعيد مواجهة الكارثة قبل أن يتجاوزنا الزمن.

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock