لم يكن هناك مفر من أن تتسع زاوية النظر في التعامل مع ظاهرة في حجم وخطورة “الإرهاب”، لتجاوز السردية التي تبدأ من المعلومة والواقعة والرقم، وأن تتجاوز “النصوص المؤسسة” – من فتاوى وتنظيرات – للتحديق بدرجة أكبر في “النسيج” الذي يشتد في قلبه عود الإرهاب، ومن ثم ظهر تعبير: “البيئة الحاضنة للإرهاب”، شاملاً الإنسان والمكان والثقافة وكل ما يمكن أن يجعل نار الإرهاب تمتد أسرع.
الباحث النرويجي توماس هيغهامر في أطروحته للدكتوراه المعنونة: “الجهاد في السعودية: قصة تنظيم القاعدة في جزيرة العرب”، يقدم خلاصة غاية في الأهمية، يقول: “أهم الدروس التي نستخلصها من تاريخ القاعدة, هو أن تمتّع جماعة عنفيّة بحرية مطلقة في بقعة أرض يزيد من قدرتها العسكرية بشكل هائل“. وبحسب الدكتور عمرو الشوبكي، فإن “الحرب مع الإرهاب تختلف عن الحرب مع العصابات المسلحة”، حتى لو مارسا السلوك نفسه، فالأمر يتعلق هنا بالبيئة الاجتماعية والسياسية المحيطة بكل منهما”.
وعلاقة الظاهرة ببيئتها الحاضنة ليست بسيطة ولا آلية، بل تنطوي على تعدد وتنوع كبير، يقول هيغهامر: توجد صور مثالية مختلفة للتيار الإسلامي المسلح، وهذا يفسح المجال أمام احتمال أن يكون للأنواع المختلفة لهذا النشاط أسباب أيضاً مختلفة، وكل صورة له مرتبطة بخصائص معينة لبلد معين، فمثلاً كان انتقال بن لادن من السودان لأفغانستان (1996) بداية “العصر الذهبي للقاعدة”، عصر كان أهم دعائمه: “الملاذ الآمن”.
وقد قام الباحث الأمريكي ميشيل موسو بمسح في 14 دولة إسلامية لمعرفة ما يجعل الناس العاديين داعمين للإرهابيين. وعينة الدراسة كانت 8000 مسلم من 14 دولة يمثل سكانها 62 % من مسلمي العالم، سئلوا حول رأيهم في استخدام الإرهاب للدفاع عن الإسلام. الدراسة اختبرت فروضـًا عديدة: التدين، التعليم، الفقر، الدخل، السخط، لكن التحليل يشير لعامل واحد: فقراء المدن. ودور المناطق الحضرية الفقيرة يتلخص في أن جذور “الإرهاب الإسلامي” هي في الأحياء الأكثر اكتظاظـًا حول المدن الكبيرة. فالنازحون من الريف كان يحدوهم الأمل في حياة أفضل، ولما لم يجد كثير منهم ذلك أصبحوا يدعمون الفكرة الإرهابية.
النتيجة النهائية للدراسة أن “فقر المدن” أو “الأحياء العشوائية” على حواف المدن الكبرى بيئة حاضنة للإرهاب. نسبة كبيرة من المستطلعين عجزوا يوماً عن شراء الحاجات الغذائية الضرورية، أو الدواء، أو الملابس الضرورية. و49 % منهم مقتنعون بأن استخدام العنف للدفاع عن الإسلام مرفوض تمامًا، و15 % يرونه مبررًا نادرًا، 21 % يرونه مبررًا أحيانـًا، و 15 % يرونه مبررًا غالبًا. ما يعني أن بعضهم داعم لفكرة استخدام الإرهاب.
وتعد “الثقافة المحافظة”، محضناً لـ “السلفية الجهادية”، ويرى عالم الاجتماع البحريني الدكتور باقر النجار أن تجارب “طالبان” والجماعات السلفية في العراق وسوريا، تثير السؤال: هل هذا الفعل شاذ أم يمثل التيار السائد؟. وقد مثلت التضامنات القبلية والجماعات الاجتماعية المحافظة حواضنها الرئيسة. وفي حالة طالبان – مثلاً – فإن الاختراقات التي تُحدثها في صفوف الجيش والأمن الأفغانيين تحدث بفعل المعطى القبلي، وليس السياسي أو الآيديولوجي، وما يدعم التعاون الدائم بين “طالبان باكستان” و”طالبان أفغانستان” هو أن “التداخل القبلي” قد وحدها أكثر من التماثل الفكري أو الآيديولوجي. وبالمثل فإن قوة الجماعات السلفية في العراق وسوريا كان في البوادي.
من البيئات الحاضنة المهمة أيضاً ما أسميه: “رهاب الهوية”، فمن الظواهر الملفتة أن دراسات رصدت نزوعًا عند عرب وآسيويين من المهاجرين إلى أوروبا، نحو الهجرة لأفغانستان إبان حكم طالبان، لرغبتهم في تنشئة أبنائهم في “بيئة إسلامية محافظة”. وتشكل العلاقة بين “الهوية” و”العنف” موضوع تتزايد أهميته باضطراد في الاجتماع السياسي، فالدولة الوطنية الحديثة عززت أهمية مقولة الهوية، ولاحقًا، أصبحت محركًا لا يستهان بأثره في تحولات الإسلاميين المسلحين. ويربط الباحث فتحالي م. مغدم (جامعة جورج تاون الأمريكية) بين: “الهوية”، و”الراديكالية”، و”العنف”. وفي باكستان مثلاً تعتبر شرائح من المجتمع أن علمانيين اختطفوا “الأجندة الباكستانية” لمحاربة الإرهاب ما يهدد هوية المجتمع.
و”الدولة الفاشلة” أيضاً من هذه البيئات، والصومال مثلاً كان يحتل المركز الأول عالميًا على مؤشر “الدول الفاشلة” منذ 2007. وقد انتبه بن لادن لذلك مبكرًا، فأرسل حارسه الشخصي للاستطلاع (1996 – 1998) للانتقال لليمن أو الصومال. وكان يعتزم توحيد قواته وقوات زعماء العشائر المتعاطفين للاستيلاء على الصومال ليكون منطلقاً لجهاد أوسع. وفي اليمن كان لـ “القاعدة” وجود واسع بفضل الولاءات القبلية غالباً. وبحسب قيادي القاعدة أنور العولقي هناك تأييد من “قطاعات واسعة من الناس في اليمن”، والقاعده أدركت مبكراً أن التنظيم لن يتمكن من ترسيخ قدميه “بدون دعم القبائل”، وأن خسارة دعمها أخطر “من هجمات الطائرات بدون طيار”.
ويعد الإقصاء والتهميش أيضاً، بيئة حاضنة، وكفاءة الدولة لا تقاس فقط بقدرتها على توفير الحد الكافي من متطلبات الحياة بل بنوعية الحياة، وغياب المقومات الرئيسة لدولة القانون واستئثار فئة بالسلطة يفتح للإرهاب. ويعتبر الصحافي البريطاني باتريك كوكبيرن أن التهميش السياسي للعرب السنة عمود الخيمة في البيئة الحاضنة لـ “داعش”.