رؤى

الوهابية المرتبكة..‎ تحدي الصحوة (١): ‎كسر خطة «تقطيع» المجتمع السعودي

تشير المعلومات إلي أن الإيرادات النفطية للمملكة العربية السعودية تضاعفت سبعين مرة في الفترة ما بين عامي 1970وعام 1980، وهو مافتح الباب واسعا للإنفاق علي المجال الديني عبر ما أطلق عليه «ستيفان لا كورا «الصفقات التؤاطئية» للنظام إلي المجالات المختلفة المقطعة في البلاد، والتي وضعت بشكل لا جدال فيه ما أُطلق عليهم «شيوخ الحداثة» في مواجهة «شيوخ التراث»، وشيوخ الحداثة هنا هم تعبير عن الوجه الذي صنعته (اصطنعته) السلطة للبلاد لمخاطبة الغرب بأن هناك وجها حديثا للبلاد أنتج طبقة المثقفين الذين سيصفهم علماء الصحوة الدينيين فيما بعد بالليبراليين».

‎وبدلا من قصر توجيه سهام الولاء والبراء للمبتدعة والصوفية والشيعة تطور المفهوم لدي الصحويين فيما بعد ليتجه إلي الغرب الكافر ثم إلي حلفائه من العلمانيين والماسونية والمنافقين الذين تحتمي وراءهم النظم القومية المنخرطة في صراع سياسي مع المملكة.

اقرأ أيضا:

‎ولتعطي الدولة انطباعا باستقلال المجالات المختلفة ومنها المجال الديني فإنها كانت تمنح الأموال المتدفقة من مواردالنفط الهائلة لمن يترأسون كل مجال، وهم بدورهم يقومون بتوزيعه علي من يرون أنه يمكن تدجينه وإدخاله في الحظيرة الدينية للبلاد دون أن يتحداها أو يواجهها أو يربكها. 

‎في البداية أعادت الدولة السعودية هيكلة المؤسسة الدينية لتشبه ما يمكن تستميته بـ«فاتيكان ديني» يقف علي رأسه الشيخ عبد العزيز بن باز والذي اعتبر «أبا» للجميع، والذي استفادت الصحوة وغيرها من التيارات الدينية التي انقلبت علي المؤسسة الوهابية من أبوية الرجل ومنحه التزكيات اللازمة للقوة الدينية المنطلقة بعد الفورة النفطية في مطلع السبعينيات  بفعل الموارد الهائلة التي تم ضخها في هذا المجال. مثلا استفادت حركة «جهيمان العتيبي».. الجماعة السلفية المحتسبة واستفاد السروريون والإخوان من الموجه الهائلة من الاندفاع والتدفق والتحرر من الرقابة لحد أن المساجد كانت مجالا هائلا للخطابة النقدية وكانت الدورات.

Image result for ‫الشيخ عبد العزيز بن باز‬‎

الشيخ عبد العزيز بن باز

‎التربوية والإيمانية والمعسكرات الصيفية والجامعات الدينية النشطة التي تأسست للتو مثل الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة والهيئات الحديثة مثل رابطة العالم الإسلامي والندوة العالمية للشباب المسلم، وفي نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينيات أصبحنا أمام جيل جديد يتشكل هو الجيل الذي أُطلق عليه جيل الصحوة، وأصبحت البلاد أمام وجود حقيقي لما يمكن أن نطلق عليه مجتمع مدني ذو عمق ديني قوي يتباعد تدريجيا عن المؤسسة الدينية الرسمية الوهابية فيما يُطلق عليه علي العميم في كتابه «شئ من النقد.. شئ من التاريخ.. آراء في الحداثة والصحوة وفي الليبرالية واليسار» مشايخنا ومشايخ الصحوة.

‎كان تركيز المؤسسة الدينية الوهابية الرسمية التي تم احتواؤها من قبل النظام علي الخطر البدعي والصوفي والشيعي بالطبع، ومع ظهور جيل الصحوة بدأ التلاقح بين الجانب المتشدد في الوهابية وبين أفكار الإخوان الحركية خاصة التيار القطبي، وهنا توجهت سهام الكراهية والنقد للغرب وأصبح موضوعا للولاء والبراء، كما توجهت السهام ضد النظم الحاكمة عبر مفهوم الحاكمية الذي لم يكن جزءً من المنظومة الوهابية الرسمية، وبينما كان يتم استخدام علم الكلام الجديد في مواجهة النظم الحاكمة في البلاد الأخري التي ينظر الصحويون إليها أنها لا تحكم بالشريعة، فإن الصحوة ورجالها وجدوا أنفسهم في مأزق كون السعودية تحكم بالشريعة ومن ثم فإنهم صاروا في الداخل كثوار بلا قضية وصناع لثورة بلا واقع.

اقرأ أيضا:

‎حرص النظام السعودي علي أن يبدو فوق الجميع من خلال منهج تقطيع المجالات وجعل كل مجال يعمل وحده عبر «الصفقات التواطؤية» التي أشرنا إليها من قبل، فكل مجال يظل منفصلا.. المجال الأدبي والمجال الثقافي الليبرالي والمجال الديني وحتي المجال النسوي، وهو ما أعطى النظام شعورا بالاستقرار وغياب التحدي.

‎بيد إن الصحوة التي تشكلت علي نار هادئة وفي مجال يساعد علي تكوين عمق اجتماعي حقيقي استطاعت أن تخرج علي هذه القاعدة عبر تجاوزها للمجال الديني إلي المجال الثقافي وإلي المدارس الثانوية وشبابها خارج المدارس وخارج المناهج واستطاعت أن تتمدد في المجالات الأخري مجاوزة المجال الذي كان النظام قد حدده لها، ولا بد من الإشارة هنا إلي أسماء مهمة شكلت وعي الصحوة الجديدة بعضها جاء من خلفيات إخوانية مثل محمد أحمد الراشد الذي ألف كتابي «المنطلق» و«المسار» وغيرهما من الكتب، وهو عراقي إخواني اسمه الحقيقي «عبد المنعم العلي العزي»، وكان لمجلة «المجتمع» الكويتية التي تعد بمثابة «الكراس السياسي للصحويين» بتعبير الكاتب السعوي علي العميم تأثيراً كبيراً علي الصحوة الجديدة في السعودية رغم أن الجناح البناوي (نسبة إلى حسن البنا) المهادن في الإخوان هو الذي كان يشرف عليها، وكانت أهميتها تكمن في إلقاء الضوء علي المآسي التي تعرض لها المسلمون في البوسنه وفي غيرها من الدول، وهو ما سيس المجال الديني السعودي.

‎كانت هناك أسماء نجدية تشربت بالمشارب المتشددة في الوهابية مثل عبد الرحمن الدوسري الذي يُطلق عليه رائد الصحوة في السعودية، وهو من أطلق سهام الولاء والبراء علي الليبراليين والمثقفين السعوديين في المجالات الأدبية والثقافية وكان يتحرك حتي وفاته عام 1979م بأريحية في كافة أرجاء البلاد واستطاع أن يبني علاقات مع أعلي المراتب في المؤسسة الدينية في البلاد، وهناك أيضا محمد بن سعيد القحطاني «صاحب كتاب» الولاء والبراء في الإسلام»، وسوف نلاحظ أن الصحويين في السعودية أرادو ترسيم أنفسهم عبر الملبس فكانوا يقصرون الثياب لمنتصف الساق ويستدلون علي ذلك بأحاديث ويأخذونها علي ظاهرها، وكانت النساء ترتدي العباءة التي لا تظهر الكتفين ويرتدين الجوارب في اليد والأرجل، وكان الرجال يرتدون الغطرة أو الشماغ دون عقال، ويُطلقون اللحي بدون أخذ منها، ورغم أن ظاهرة الصحوة في السعودية في السبعينات والثمانينيات وحتي منتصف التسعينيات كانت جزءً من صعود عام لماعرف بالإحياء الإسلامي، وأن التأثيرات الأكبر عليها والتي جعلت منها تحديا للوهابية الرسمية التقليدية جاءت من خارج السعودية، إلا أنها استقلت بذاتها واستقام عودها وقويت شوكتها داخل البلاد واستطاعت أن تطبع هي الأخري التيارات الصحوية وخاصة السلفية التي نشأت وظهرت خارج السعودية.

محمد بن سعيد القحطاني

‎سوف تظهر أسماء مهمة في مجال الصحوة أغلبهم من جيل الخمسينيات مثل سفر الحوالي وسلمان العودة وناصر العمر وعوض القرني وسعيد الغامدي، وهؤلاء استلهموا ما أطلقوا عليه «فقه الواقع» واستدلوا في ذلك بكلام لابن قيم الجوزية تلميذ ابن تيمية عن ضرورة أن يكون العالم عارفا – بالإضافة إلي المدرك الشرعي المجرد – بالواقع الذي يطبقه فيه.. «أن يعطي الواقع حقه من الواجب، وأن يعطي الواجب حقه من الواقع»، واعتبر «ناصر العمر» مثلا في محاضرة له عن «فقه الواقع» أن العلماء التقليديين الوهابيين لا يملكون الفهم الكافي بالواقع الذي تفرض المعرفة بالعلوم الاجتماعية والتاريخ، ومذكرات السياسيين، وكتب الاقتصاد والسياسة، ومن هنا قدم الصحويون أنفسهم كتحد جديد لفهم المؤسسة الوهابية التقليدية التي لا يتصل علماؤها بشكل كبير بالواقع لمعرفة الأحكام والفتاوي التي يصدرونها.

Image result for ‫ناصر العمر‬‎

ناصر العمر

‎كما أن سفر الحوالي قدم رسالته للماجستير عن «العلمانية» بينما قدم رسالته للدكتوراه عن «ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي». انتقد الحوالي الألباني وهو عنوان لتيار عريض داخل الحالة السلفية باعتباره مرجئا، لعدم تكفيره من يفعل الذنوب والمعاصي من المسلمين دون أن يعتقد استحلالها، ومنهم بالطبع المؤسسة الدينية الوهابية التقليدية التي يراها معبرة عن الفكر الإرجائي بعدم قيامها بما يجب عليها تجاه السلطة والحاكمين، وأنها تتبع ما ذهب إليه «بن باز» بأن الحكام الذين لا يعلنون استحلال حكمهم بغير ما أنزل الله أو أن حكم غير الله مساو أو أفضل من حكم الله، فهم حكام شرعيون وإن قد أتوا بذنوب لا تكفرهم ولا تخرجهم من الملة.

اقرأ أيضا:

‎ولكي يتحدي الصحويون المؤسسة الوهابية من داخلها فقد أحيوا رسالة المفتي السابق للبلاد في فترة الخمسينيات والستينيات «محمد بن إبراهيم آل الشيخ» وهي رسالة في «تحكيم القوانين الوضعيه»، وفيها اعتبر الشيخ أن القوانين التي تشرع خارج الشريعة هي قوانين كفرية بما في ذلك القوانين ذات الطبيعة الإدارية والتنظيمية.

Image result for ‫رسالة في تحكيم القوانين الوضعيه‬‎

سفر الحوالي

‎سلمان العودة هو أحد الأشخاص المهمين في الصحوة السعودية الجديدة والتي تحدت السلطة التقليدية للعلماء الرسميين وقد كان يري أن هؤلاء العلماء بما في ذلك «بن باز» و«بن عثيمين» يهتمون بالقضايا الجزئية ولا يعبأون بالقضايا الكلية ولا بالمشاكل الكبري المتعلقة بالسياسة والحكم، وله في ذلك كتاب أسماه «الإغراق في الجزئيات».

سليمان العودة

‎(يتبع)

كمال حبيب

أكاديمي مصرى متخصص فى العلوم السياسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock