رؤى

القرآن الكريم.. حاجتنا لتأويل جديد

بينما كنت أحرر مسألة متعلقة بتأويل قوله تعالي “لا ينهاكم الله عن الذين لم يُقاتلوكم في الدين ولم يُخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين”، الممتحنة، الآية 8، لأفهم معني البر والقسط لمن لم يخرجنا من ديارنا أو يقاتلنا في ديننا، وعدت لتفسيرات المفسرين القدامي فوجدت من يقول بنسخ الآية، والنسخ يعني رفع الأحكام التي تتضمنها تلك الآية والمعاني المستبطنة داخلها لصالح آية أخري وهي قوله تعالي “وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة” سورة التوبة : آية 36  أو قوله تعالي “فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد”، التوبة، الآية 5. وآية البر والقسط مدنية في سورة الممتحنة، وأذهب إلي أنها آية محكمة وأنها من أم الكتاب لا تشابه فيها بل هي واضحة وضوحًا جليًا يُذهب عنها كل إبهام أو تشابه كما ينفي عنها النسخ وهي قائمة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، فكيف نقول بأنها منسوخة بآية السيف التي جاءت في سورة التوبة وأن أحكامها قد رُفعت؟.

لا ريب أن المفسر القديم كان يٌريح نفسه فيحاول حل ما يعتبره إشكالا باستسهال القول بالنسخ ورفع الحكم. وذهب بعض القدامي من المفسرين للقول بأن آية السيف في سورة التوبة نسخت مائة وأربعة وعشرين آية في أربعة وخمسين سورة، ما يعني أن آية واحدة رفعت أحكام أكثر من مئة آية وما فيها من معان.

القرآن كله كلام الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، وهو القول الفصل ليس بالهزل، ومن ثم فإن آيات الدعوة والجنوح إلي السلم وعدم الإكراه في الدين وترك أمر اختيار الدين لمشيئة الإنسان وأن الرسل عليهم البلاغ دون فرض أو إكراه أو سطوة أو سيطرة وجهاد النفس والإحسان إلي الغير، هذه كلها كلام الله المتجاوز المتعالي الذي لا يمكن أن ترفع حكمه وترفع معانيه مجرد آياتين في القرآن الكريم نزلت في حق المشركين الذين كان لهم عهد مع النبي والمسلمين أن يتموا عهدهم إلي مدتهم وأما أولئك الذين لم يكن لهم عهد من الوثنيين عابدي الأصنام في الجزيرة العربية فإن لهم أن يسيحوا في الأرض لمدة أربعة أشهر وبعد انقضاء تلك الأشهر فإن للمسلمين الحق في قتالهم.

وبين هذه الأحكام في التعامل مع الوثنيين المقيمين في جزيرة العرب التي تعد الإقليم الاستراتيجي للدين الجديد فإن هناك أحكام للمستأمنين من غير المقاتلين الذين يتاجرون ويريدون أن يسمعوا كلام الإيمان والدعوة والإسلام، فهؤلاء يجب حمايتهم حتي يسمعوا كلام الله ويعرفوا محاسن الدين الجديد. القتال لحظة في حياة الأمم وفي حياة الأديان والدعوات، بينما الإنسان والشعوب والناس والتواصل بين الأمم والتفاعل بين الحضارات مستمر لا يتوقف.

من هنا وبوضوح، فإن آيات براءة في سورة التوبة هي خاصة بمشركي العرب الوثنيين الذين لا يجوز لهم البقاء علي دينهم الوثني المقدس للأصنام المروج لديانة الرجس من الأوثان في إقليم اعتبره الإسلام إقليمًا خاصًا بإعلان عقيدة التوحيد للدين الجديد، فلا يجتمع دينان في جزيرة العرب، أما بقية العالم من أهل الكتاب فقد أباح الإسلام الزواج من نسائهم المحصنات وأباح طعامهم والتعامل معهم بيعا وشراء وتجارة، ذلك أن الإسلام لا يقاتل الناس لكفرهم أو اختياراتهم الدينية، إنما يقاتلهم بسبب امتناعهم وتكوينهم جبهة معادية له ولأهله “إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم” الممتحنة، الآية 9.

المعيار هنا إذن هو المقاتلة في الدين والإخراج من الديار والإمعان في ذلك وتجميع القوة لاغتصاب بلاد المسلمين. وعليه فإن آيات “لا إكراه في الدين”، “وإن جنحوا للسلم”، “والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا”، “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”، “لست عليهم بمسيطر”، و”إن عليك إلا البلاغ”، “ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن”، كلها آيات محكمات.

المفسر القديم كان يعيش في عصر مختلف عن العصر الذي نعيش فيه، قائم علي العلاقات العضوية والمواجهات الجسدية الفردية الدامية والمواجهات الجماعية عبر الجيوش، وكان يقسم العالم إلي دار كفر ودار حرب ودار إسلام وأمان. ولأنه لا يعقل مواجهة العالم كله وقتاله، فقد تحدث الفقهاء من بعد عن  دار العهد والصلح والموادعة، واليوم نتحدث عن أمة الدعوة وأمة الإجابة، بمعني أن العالم كله هو أمة للدعوة علينا أن نخاطبها بتأويل جديد للقرآن الكريم عبر آيات الدعوة والسلم والموادعة وعدم الإكراه في الدين واعتبار السلم لا الحرب هو الأصل في العلاقة مع العالم، لتقديم الإسلام بأحسن صورة عبر التفاعل السلمي لا عن طريق القتال.

هذا التأويل الجديد يجعلنا نعيد النظر في ما اعتبره القدامى منسوخًا ليكون محكمًا وأساسًا جديدًا لبناء علاقات مختلفة مع العالم تقوم على التواد والتسامح والرحمة ومشاركة الآخرين قيمهم التي لا تتعارض مع قيم الإسلام. فالمسلمون أمة من الناس وليسوا شيئا منفصلا عنهم، وهم جزء من عالمهم وعصرهم.

القرآن الكريم في قضايا الاجتماع والسياسة والعلاقة مع العالم لا يعرف النسخ أو رفع الأحكام أبدا، وكل الآيات التي تنظم تلك المسائل هي آيات محكمة لا تعرف النسخ ومجال عملها اليوم أوسع بكثير مما اعتبره الفقيه والمفسر القديم منسوخًا استنادًا لآيتين نزلتا في حق مشركي قريش ومكة والجزيرة العربية.

كلام الله وقرآنه لا يعرف النسخ في مسائل تنظيم حياة الناس ووضع أسس العلاقة فيما بينهم، ونحن اليوم أحوج ما نكون لإعادة تأويل ما اعتبره المفسر القديم منسوخًا ليكون فاعلا، فعالم الإسلام الذي دخله عبر الدعوة  والسلم والتجارة والمصالحة أكثر وأوسع من ذلك الذي فتحه السيف والقتال.

كمال حبيب

أكاديمي مصرى متخصص فى العلوم السياسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock