دار الكتب

«أين نذهب يابابا؟» .. رواية فورنييه الموجعة

منذ صعوده إلي السيارة الكامارو ردد توماس البالغ عشر سنوات كما يفعل دوما:أين نذهب يا بابا؟.

 في البداية أجبت: نذهب إلي البيت.

 بعد دقيقة ومن دون أن يفهم طرح السؤال من جديد وبنفس البراءة، وعندما سأل للمرة العاشرة: أين نذهب يا بابا؟

 لم أعد أرد.

لا أعرف تمامًا أين سنذهب يا توماس المسكين، سنضيع، سندخل في الحائط مباشرة.

طفل معاق، ثم طفل ثان، ليس هذا ما كنت أنتظره.

أين نذهب يا بابا؟

سنسير في الطريق السريع عكس الاتجاه، سننزل بالسيارة في البحر، سنذهب للتنزه في الرمال المتحركة، سنذهب إلي الجحيم.

وفي ثبات استمر توماس يسأل (أين نذهب يابابا ؟) ربما يريد أن يضرب رقمًا قياسيًا جديدًا، وبعد المرة المائة لم يعد الأمر محتملًا، مع توماس لا سبيل للملل!.

(جون لوي فورنييه)

رواية قصيرة موجعة وحقيقية تمس شغاف القلوب خاصة الآباء والأمهات الذين ابتلوا بطفل معاق أو مريض نفسيا كتبها  والسيناريست والمخرج التليفزيوني الفرنسي الشهير يحكي فيها بطريقة إنسانية عميقة عن معاناته الشخصية مع ولديه المعاقين عقليا وبدنيا، ولا تزال الرواية تمس القلوب رغم مرور سنوات عدة على صدورها.

يقول فورنييه في مقدمة قصته، التي نالت جائزة الفيمينا عام 2008، موجها كلامه لولديه: “سأمنحكما كتابًا، كتابًا كتبته لأجلكما، حتي لا ننساكما، حتي لا تبقيان مجرد صورة علي بطاقة عدم الأهلية، لكتابة أشياء لم أقلها أبدا، لم أكن أبًا صالحًا بما يكفي، لم أحتملكما في أغلب الوقت، كان من الصعب أن يحبكما أحد، معكما كان يلزم صبر الملائكة ولم أكن ملاكًا.. أخبركما أنني نادم علي أننا لم نكن سعداء معا وربما أيضا أستميحكما عذرا أني تجاهلتكما، بفضلكما كنت متميزا عن غيري، فلم نكن ننشغل بما ستفعلانه فيما بعد، فقد علمنا سريعا أنكما لن تفعلا شيئا”.

يتحدث عنهما طويلا بإنسانية لا تخلو من سخرية، يتذكر الفتاة التي كانت تقوم برعايتهما، كانت ممتازة مع الطفلين بحس جيد دون شفقة زائدة وكانت تحبهما كثيرا، سمعها يوما تقول: لكن ثمة قش في رأسيكما!

 لم يعنفها، بالعكس شعر أنه توصيف ممتاز، بالتأكيد ثمة قش في الرأس حتي الأطباء لم يروه!.

بعد ذلك ألحقهما بالمعهد العلاجي التربوي للمساعدة في رعايتهما، كان يأخذهما في نهاية الأسبوع لتمضية يومي الإجازة معه وقد هجرته زوجته (والدتهما) لأنها لم تعد تحتمل، وهو لا يلومها بل يلتمس لها الأعذار، يقول: أم أطفالي التي حملتها فوق طاقتها ضاقت ذرعًا وغادرتني، ذهبت لتضحك في مكان آخر.

بعد فترة احتاج الطفل الأكبر والأشد إعاقة لجراحة مات علي إثرها ولم يبق سوى توماس ليردد دائما: أين نذهب يا بابا؟.

يصف فورنييه ولديه هكذا: إنهما لطيفان، هم مثل الأبرياء أينما ولوا لا يرون الشر، هما قبل الخطيئة الأولى من زمن كان العالم فيه بلا سوء والطبيعة خيرة وكان بالوسع مداعبة النمور بلا خطر.

ويتحدث في أسى عن وفاة الطفل الأكبر: لا ينبغي الاعتقاد أن الحزن علي وفاة طفل معوق أقل، هو نفس الحزن علي وفاة طفل طبيعي، مرعب هو موت من لم يكن أبدا سعيدا، من جاء إلي الأرض ليقوم بجولة سريعة فقط لأجل أن يعاني، ولذلك يصعب الاحتفاظ بذكرى لابتسامته.

ويضيف: في كل عصر، في كل مدينة، في كل مدرسة كان يوجد وسيوجد في نهاية الفصل تلميذ ينظر في الفراغ يجيب علي الأسئلة بأي كلام لأنه لا يفهم، ما يثير ضحك باقي التلاميذ، هو لم يتعمد ذلك، كان يرغب ألا يثير الضحك كان يجتهد لكن رغم جهوده كان ينطق بالحماقات لأنه لم يكن مستوعبا.

تبقى ثلاث  ملاحظات على القصة الموجعة:

الأولى: أن الأب كان أكثر إحساسًا بالمسئولية تجاه أولاده، وحتي حين غادرته الأم التمس لها العذر وأكمل واجبه تجاههما.

الثانية: ذلك الإحساس المثقل بالمسئولية تجاه الأبناء الذي يؤرق الآباء والأمهات حتي لوكان أبناؤهم طبيعين وأذكياء، إحساس لا يشعر به سوى من كان أبًا أو أمًا ولن يجازيه عنه سوي رب العالمين، فهو يمنح قسطًا من روحه حقيقة لكل ابن أو ابنة ولا يستطيع أن يتخلص من ذلك الشعور.

الثالثة، والأهم: أن الكاتب يشكو رغم أن الدولة منحته مركزًا تربويًا علاجيًا تأهليًا بالمجان ويسرت له الحصول علي سيارة خاصة لمساعدته في إعالة طفله المعوق لأن مسئوليته وبمرور الوقت أثقل من أن تتحملها الأسرة.

ليت لدينا مثل هذا المركز لمساعدة الأهل في رعاية الأبناء المعاقين والمرضى وعديمي الأهلية. مركز متقدم يساهم فيه أهل الخير ويخفف عن كاهل الأسر المبتلاه.

ربما آن الأوان لتبني الدعوة لمثل هذه المبادرة لإنشاء وتأسيس “مركز للإنسانية” لعله يسهم في توفير إجابة علي التساؤل الحائر في عين كل طفل معاق (اين نذهب يابابا؟)، وليجد الأب المسكين جوابا يعينه علي استمرار التحمل.

رواية أين نذهب يا بابا؟؟

إيمان القدوسي

كاتبة وصحفية مصرية

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock