منوعات

درية شفيق.. انتزعت حقوق المصريات وقتلها طموحها الجامح

“أردت أن أعيش الحياة كتحفة فنية”.. هذه الجملة المعبرة تلخص فلسفة درية شفيق التي حاولت تطبيقها بإخلاص. لم تكن تريد أن تحيا كامرأة تقليدية عابرة، وأصرت أن تترك بصمتها كامرأة مختلفة.

الجمال أول صفات التحفة الفنية، وهو ما استهلت به درية شفيق حياتها الصاخبة، جمالها الذي اشتهرت به كان مختلفا أيضا، لم تكن فاتنة بالمقاييس المعروفة لكنها كانت تعتني بكل تفاصيلها إضافة إلى جاذبية شخصيتها.

اشتركت في مسابقة ملكة جمال مصر عام 1935 كأول فتاة مصرية مسلمة تشارك في هذه المسابقة وتصدرت صورها وأخبارها الصحف والمجلات، في تلك الفترة تعرفت علي الصحفي الشهير أحمد الصاوي محمد، أغراها بالشهرة والنجومية فأعلنت خطبتهما وكانت حدث الموسم.

أحمد الصاوي محمد

أدركت أن عمر الجمال قصير وشهرته زائلة، ففي العام التالي ستأتي ملكة غيرها تصبح هي النجمة، طموحها العالي كان أكبر من ذلك بكثير فتركت الطريق برمته كما تركت خطيبها الذي لم تكن مقتنعة به وشعرت أنه يستغلها.

ولدت درية شفيق في 14 ديسمبر عام 1908لأسرة عريقة في طنطا في دلتا مصر، لكنها كانت من الفرع الفقير نسبيا داخل الأسرة، تعلمت في مدرسة فرنسية ولما وجدت أن المراحل الدراسية العليا مخصصة للذكور فقط أصرت على مواصلة تعليم نفسها والتقدم إلى الامتحان من الخارج، بعدها اتجهت لجمعية هدي شعراوي النسائية وصارت من تلميذاتها النجيبات ما رشحها لبعثة تعليمية في السوربون في باريس لدراسة الفلسفة، ولم يمنعها ذلك من استمرار عنايتها الفائقة بجمالها وأناقتها ورشاقتها فكانت تخطف الأنظار حين دخولها لأي مكان.

في باريس التقت ابن خالتها نورالدين رجائي، كان يصغرها بسبع سنوات وفي بعثة دراسية أيضا، حدث تقارب سريع بينهما وتزوجا، كان هو زوجها الوحيد ووالد بناتها بعد ذلك.

بعد عودتها من باريس عام 1940 وحصولها علي درجة الدكتوراه في الفلسفة عن رسالتها “المرأة في الإسلام”، عينت معيدة للأدب الفرنسي في كلية الآداب جامعة القاهرة وقت أن كان عميد الكلية المفكر الكبير أحمد أمين صاحب سلسلة “فجر الإسلام”.

حدثت أزمة بينها وبين أستاذها أحمد أمين بسبب مظهرها اللافت وصغر سنها وعدم اعتياد الطلاب في الجامعة على قيام شابة مثلها بالتدريس، إلا أنها استمرت بمساندة كثير من المثقفين وقتها، لكن ما لبثت أن غلبها الملل من التدريس وشعرت أنه يحد من إمكانات تطورها فتركت الجامعة واتجهت للصحافة والعمل العام.

ترأست لفترة قصيرة تحرير مجلة “المرأة الجديدة” ثم أنشأت مجلتها “بنت النيل” وكانت أول مجلة نسائية متخصصة تحدث دويا هائلا، خاصة لاهتمامها برصد وقائع مجتمع النساء الفقيرات والمعيلات، ثم وصلت لقمة نضجها بإنشاء جمعية “بنت النيل” للارتقاء بالمرأة تعليما وعملا، والتصق بها اللقب فصارت درية شفيق بنت النيل وطبقت شهرتها الآفاق وعقدت صداقات شخصية مع زوجات رؤساء وملوك العالم، وكانت ضيفة مرحب بها أينما حلت، فالكل معجب بها كأيقونة للجمال والعلم والوطنية والنشاط، وهكذا جسدت حلمها أن تعيش كتحفة فنية يحتار في سر جاذبيتها كل من يراها.

في عام 1951 قادت أكبر مظاهرة نسائية قوامها 1500 امرأة قمن باقتحام البوابات الرئيسية للبرلمان، حينها قالت: نحن هنا بموجب قوة حقنا كنصف الأمة وهذا البرلمان لا يمثلنا لأنه برلمان الرجال فقط، ظلت المظاهرة أكثر من 4 ساعات وانتهت بالاستجابة لمطلبها الرئيسي بإعداد تشريع للعرض على البرلمان يمنح المرأة حقوقها السياسية في التصويت والترشح في الانتخابات العامة، وهو ما تم إقراره لاحقا في الدستور عقب ثورة 23 يوليو 1952.

كان لهذا النجاح أصداء عالمية ذاعت معها شهرة درية شفيق ونضالها من أجل رفعة شأن نساء مصر، كما لعبت درية شفيق دورا وطنيا في مقاومة الاحتلال البريطاني، وحاصرت مع جيشها النسائي الصغير بنك باركليز الإنجليزي عام 1951 ودعت لمقاطعة التعامل مع الإنجليز، وعكفت على تدريب المصريات علي أعمال التمريض للمساعدة في ميدان القتال. وكانت فرحة درية شفيق عارمة بعد ثورة 23 يوليو عام 1952 لخروج المحتل واستعادة حكم مصر للمصريين.

سعت درية شفيق بعدها لتحويل جمعيتها النسائية لحزب سياسي، لكن لم يستجب لطلبها وجدت متغيرات كثيرة على الساحة السياسية جعلت نشاطها وتحركاتها غير المحسوب أمرا غير مرغوب فيه، بعدها اعتقل زوجها 4 شهور ليطلقها بعدها، لعدم استجابتها لطلبه المتكرر بالحد من اندفاعاتها والتفرغ لرعاية بنتيها وأسرتها.

عقب اعتصامها بسفارة الهند في عام 1957 بعد تصاعد خلافها مع سلطات الحكم في مصر حول مطالب عديدة اعتبرتها السلطات متجاوزة للحد، تدخل رئيس الهند وقتها جواهر لال نهرو وزوجته لدى السلطات المصرية لإنهاء اعتصامها بالسفارة علي أن تلزم بيتها، وكانت هذه بداية عزلة طويلة امتدت نحو 18 عاما لم يملأها سوى زيارات ابنتيها وأنشطة متقطعة في الترجمة من وإلى الفرنسية، ومع امتداد العمر بها توقفت أنشطتها وكان طبيعيا أن يخبو نجمها وينساها الناس.

فاجأ الجميع مشهد رحيلها الفاجع بانتحارها في 20 سبتمبر1975، وكانت تبلغ من العمر 66 عاما، لتسدل الستار على مسيرة حافلة لامرأة متفردة دوى صوتها في جنبات العالم ولاحقتها الأضواء أينما ذهبت، وذاع صيتها في مصر والمنطقة العربية والعالم بأسره، عاشت حلمها كتحفة فنية وحطمها طموح جامح لا يعترف بأية حدود.

إيمان القدوسي

كاتبة وصحفية مصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock