المهدوية حالة نفسية تقود صاحبها للبحث عن الخلاص بتجاوز العالم الصعب الذي يعيش فيه الناس إلي عالم النهايات، وعوالم قيامة الناس إلي يوم الدين حيث يزول الظلم والطغيان الإنساني والمادي وسطوة الحضارة ذات الطابع الرأسمالي التي تسلع كل شئ وتهمش قيمة الإنسان والقيم الإنسانية لصالح المال والمادة.
من ثم فإن حالات ادعاء المهدوية لا تقتصر فقط علي العالم العربي وحده ولا العالم الغربي، هي حالة متجاوزة للحدود تعبر عن نفسها في لحظات ظهور خاص لإنسان يعتقد أنه المخلص للعالم من الشرور والآثام إلي حالة أكثر عدلًا وإنسانية.
حتي اليابان كان لها مهديها الخاص، “شوكو أساهارا” زعيم جماعة الحقيقة المطلقة الذي تم إعدامه هو وثلاثة عشر من منتسبي الجماعة عقب هجوم جماعته بغاز السارين السام على مترو الأنفاق في طوكيو عام 1995.
“شوكو أساهارا” زعيم جماعة الحقيقة المطلقة
ليس الدين هو منتج ظاهرة المهدوية، فهذه الظاهرة تنتج لأسباب اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية مرتبطة بالواقع والعصر والحضارة التي يعيش فيها من يزعم المهدوية.
حالة “شوكوا أساهارا” تبدو لي شديدة الشبه مع حالة “شكري مصطفى” مؤسس “جماعة المسلمين” في مصر مطلع السبعينيات، الذي اعتبر جماعته وحدها من تملك الحقيقة المطلقة والمسلمون هم فقط من يتبعونه، ومن لا يتبعونه فهم كفار، ومهدي اليابان يقول مثل ذلك أيضا، ويطلق على جماعته اسم الحقيقة المطلقة “أوم شينريكيو”، وكل من يدعون أنهم يملكون الحقيقة المطلقة في أي عصر هم نبتة محتملة للمهدوية التي لا تعرف النسبية ولا تعرف قيود الواقع ولا تعرف احتمال هذه القيود والقدرة علي خلق أدوات لمواجهته.
استرعى انتباهي أن مقارنة الصورة التي حفظها الإعلام المصري لشكري مصطفى تتشابه إلي حد كبير مع الصورة التي يواجهنا بها الإعلام اليوم لـ”شوكوا أساهار”. واجه مهدي اليابان حياة قاسية فهو لم يكمل تعليمه وفشل في الالتحاق بالجامعة، وكان ضعيف البصر لحد العمى ودخل مدرسة لذوي الاحتياجات الخاصة.
الغريب في تشابه المهدويين في العالم العربي والغربي واليابان أنهم يؤمنون بالتنبؤات وأحداث الملاحم الكبرى التي تنذر بقرب نهاية العالم. ستجد لشكري مصطفى كراسة بعنوان “التوسمات” يتنبأ فيها بحرب عالمية ثالثة بين الاتحاد السوفيتي (قبل أن ينهار) والولايات المتحدة الأمريكية، وأن هذه الحرب ستعيد الناس مرة أخرى إلى مرحلة ما قبل الحضارة ليتقاتلوا بالسيف والفرس ومن ثم تزول الميزة النسبية لمن يملك السلاح النووي. وهكذا فعل أيضا”أساهارا” الذي تأثر بنبؤات الطبيب وعالم الفلك “نوستراداموس” الذي عاش في القرن السادس عشر الميلادي وتنبأ بأن أمريكا ستشن حربا على اليابان فتدمرها وتجعلها مكبا للنفايات النووية، وأن أتباعه فقط هم الذين سيتحقق لهم النجاة.
شكري مصطفى
في محاكمة شكري مصطفى قبل أن يصدر الحكم بإعدامه عام 1978 كان واثقا أنه علي الحق وأنه لن يُعدم أبدا وقال لأتباعه أنه مرسل لتمكين الجماعة المسلمة التي تملك الحق المطلق ولا بد من نصرتها وعودة أميرها وشيخها منصورا بإذن الله. كان يقول لو قُتلت فاعرفوا أني علي باطل، ولما أعدم غادر كثير من أتباعه الجماعة لاهتزاز ثقتهم في مبادئها. وفي محاكمة “شوكو أساهارا” الطويلة لم يدل بأي إفادات مفهومة للمحكمة وكان يتكلم بهمهمات، وحاول دفاعه إثبات براءته ولكن المحكمة حكمت بإعدامه.
المثير للدهشة أن مهدي اليابان كان يعتبر نفسه رد فعل علي الحداثة والمادية المبالغ فيها والتي جاوزت حدودها في اليابان والعالم، وذهب لخليط من الأفكار الهندوسية والمسيحية والبوذية، وقد تبعه في التسعينيات عشرات الآلاف من أذكي العقول وأفضل المهن وأرقي الطبقات في اليابان، وقد صنع لنفسه عالما يحكمه هو، عين له وزراء من هذه العقول الكبيرة التي شاركته خلله النفسي.
ربما تفيد نظرية السلوك الجمعي (Collective-Behavior) لفهم هذه الظواهر غير المنظمة التي تجعل من المشترك بين مجموعة من الأشخاص سببا لاشتراكهم في نفس الأفكار والمشاعر بما في ذلك التقديس لشخص أو زعيم واتباعه بهستيريا وهوس، فقد كان أتباع “أساهارا” يقدسون بوله ويستحمون به، ولابد أنهم اعتبروه مقدسا وكانوا يطيعون أوامره حتي لو كان من بينها القتل والتخلص من المعارضين لأفكار الجماعة، بيد أن المثير للتساؤل هو لماذا يذهب المهدويين للمقدس لجعله مجالا لوساوسهم وهوسهم وغرائزهم ومشاعرهم البدائية، فالمقدس لا يزال قادرا علي جذب الأتباع والتأثير علي عقول ونفوس الباحثين عن خلاص، وربما يعطي الأطروحة قدرا من التماسك، بيد أنه لا ينتج الظاهرة وإنما يتم توظيفه واستخدامه واستغلاله لخدمتها.