ثقافة

«تجربة الخمسة».. إشراق الشعر عندما يفني الظلمة

هم خمسة شعراء يلتقون لقراءة الشعر ودراسة أحواله بصورة أسبوعية منتظمة في مقهى من المقاهي الشعبية بالقاهرة، خلاف نشاطهم الثقافي الفردي والجماعي بقية الأيام. هم يحرصون أيضا على اقتناء الأطروحات الشعرية الجديدة واكتشاف مواطن الجمال فيها للاستفادة منها ومواطن الاختلال لتجنبها في أعمالهم الإبداعية، ومن حين لآخر يدعون النشء والكبار لحضور اجتماعهم؛ كي يحدث التفاعل الأشمل باتساع حلقة التعليم وتبادل الخبرات.

يصنعون ما يصنعونه بلا صخب، ويعرفهم رواد المقهى ويكبرونهم، هم أصدقاء حياة بالأساس فضلا عن علاقة القصيد، أعمارهم بين الثلاثين والأربعين، وما يزالون يحلمون بمستقبل زاهٍ للشعر في بلدهم، ويرون الشعراء المصريين جديرين بتحقيقه، كما يرون مصر نفسها جديرة بالثقة مهما تكن الأزمات والمآزق.

يخفِّفون عن المؤسسة الثقافية الرسمية؛ فلا يثقلون كاهلها بمشكلاتهم، بل يحثُّون الآخرين على دعمها بثقل أسمائهم ومواهبهم، والتعامل الهادئ المحترم اللائق معها، معتمدين، أي الآخرين، على طاقاتهم الشخصية وحدها فيما يريدونه، ومعوِّلين على أفكارهم القابلة للتنفيذ، بالإصرار والصمود، على الرغم من كافة الصعوبات.

مع الوقت عرفهم الناس بـ”الخمسة أصحاب التجربة”، رواد المقهى الأصليُّون أسموهم بأصحاب التجربة، وهم قَبِلُوا الاسمَ معتزِّين بتجربة اجتماعهم الشعريِّ الدوريِّ المستقلِّ، ضيوفهم كانوا قِلَّة معدودة منتقاة في الأوَّل، وبالتدريج زاد قُطْر الدائرة طولا، وتخرَّجت من عندهم أصواتٌ عبقرية، أضيفت إلى الجماعة الشعرية المتحقِّقة الراسخة بالوطن، وبقي الخمسة في مكانهم الذي صار كبيرا وذائعا، يعبر العابرون بمقهاهم فيمكثون فيه حتى يرتووا شعرا ويؤول حضورهم المستمر إلى إطلالات خفيفة بعدها، ويحل غيرُهُم محلَّهم، بينما يبقى خمستهم قلب المشهد وخفقاته.

أدرك الخمسة، من البداية، أنهم يحتاجون إلى مال، ولو قليلا، يعينهم على شراء

الكتب وتصوير بعضها وجلب الأقلام والأوراق ومصاريف استضافات الزملاء،

ويحتاجون إلى التزام ليكونوا قدوة، وإلى صدق ليكونوا نافذين مؤثرين. لم يكن ينقصهم الالتزام ولا الصدق، أما المال فتعاونوا فيه، كل فرد وما يقدر عليه، واعتبروا من دفع ألفا يستطيع دفعها كمن دفع مائة هي أقصى ما يستطيعه، لهم وظائفهم التي توفِّر لهم رزقا متفاوتا معقولا بالطبع ولهم مصادرهم من أهاليهم ومحبِّي الشعر من الأنقياء الكرماء المستعدِّين للتضحية، وكذلك نجحوا في إقناع أعداد من ضيوفهم بالمساهمة المادية في حلقتهم الصغيرة المتسعة، بالإشراف الكامل عليها لو أرادوا، لكي يدوم الاجتماع المثمر.

لا يعتبرُ الخمسةُ أنفسهم كيانا فارقا في المشهد الشعري المصري الراهن، هم أذكى من ذلك وأكثر تواضعا، يعتبرون أنفسهم محاولين لا فارقين، يحاولون فتح الأبواب لموهوبين أُغْلِقَتْ في وجوههم الأبوابُ، ويحاولون وضع المشهد الشعري كله في دائرة التفاؤل التي يرونه يستحقها؛ فاليأس الذي قد يكون ملهما لشاعرٍ في قصيدةٍ خلاف الأمل الذي يجب أن يجمعه بأهل صنعته ويعطيهم جميعا مددا يصل بهم إلى “الحالة الفنية الرفيعة” ويوثِّق علاقتهم بالمتلقِّين ويُسَيِّر الحياة قبالة أعينهم تسييرا سَلِساً.

لا ينقطع الخمسة عن الأنشطة الثقافية القريبة إليهم، مجتمعين ومتفرِّقين، ويسافرون أحيانا للاحتكاك بالمبدعين في قصور الثقافة بالمحافظات (على نفقتهم الخاصة)، بعد الاتفاق الوُدِّيِّ مع مسئولي الثقافة بكل إقليم واستئذانهم، بلطف، في حضور الجلسة حتى لا تكون مفاجأة مربكة، وهناك يدوِّنون ملاحيظهم عن الندوات وطريقة إدارتها، ويقترحون اقتراحاتهم الممتازة للمكان وأهله، ويركِّزون في المواهب اللافتة خصوصا صغار السن، ويدعون هؤلاء إلى المرور بهم لو نزلوا العاصمة، وغالبا يطلبون أعمالهم للنشر بدوريتهم التي سمُّوها أيضا “تجربة الخمسة”.

دوريتهم تصدر كل ثلاثة أشهر، أي أربع مرات في السنة، أكثر مادتها الشعر، لكن تحوي جميع الألوان الإبداعية مع حوار بالغ الأهمية مع مبدعَيْنِ كبيرين أحدهما شاعر، وتضمُّ قسما كبيرا للغة الفصحى وقسما مماثلا للعامِّيَّة، ولا تتجاهل السينما والفن التشكيلي والموسيقى، وفيها اهتمام عظيم بقضيَّة الأغنية، وكمٌّ هائل من الأخبار الثقافية وتغطية الندوات، ومن بين موادِّها مادَّة فريدة تَعْنَى بتبسيط المصطلحات الأدبية والنقدية، لا يوجد مثيل لها بالمطبوعات الكبرى، عدد صفحات الدورية مئة، وطباعتها بسيطة، لكنها دقيقة لغويا وواضحة الكلمات والرسوم والألوان ومنسَّقة، يتناوبون على كتابة مقدمتها، ويطوِّرونها عددا بعد عدد، وينتوون زيادة المطبوع منها فما يزال محدودا، وكذلك جعلها شهرية في المستقبل القريب، ويبيعونها بتكلفتها الفعلية للمهتمِّين، ويمنحونها للعوامِّ الرَّاغبين مجانا بغرض جذبهم إلى عوالم الشعر والأدب والثقافة.

صحف ومجلات وقنوات فضائية متخصِّصة ومواقع إلكترونية جادَّة؛ انتبهت لهم ودعتهم إلى الحوار، لبُّوا الدعوات، وكذلك أخذوا الإعلام بقِضِّه وقَضِيضِه إلى جلستهم للنقل المباشر والمحاورة الجماعية الأكثر عمومية وفائدة، لم يحتكروا الشهرة لأنفسهم قَطّ، ولو ربحوا من الأمر مالا جعلوه لدعم نشاطهم المفضَّل وللدواوين الشعرية التي قرروا طباعتها لمجموعة ناضجين متميِّزين لا يملكون ثمن ذلك البتَّة.

يسعون الآن إلى إشهار جميعة أهلية للشعر تحمل اسمهم الأثير “تجربة الخمسة”، مع تذييل لافتتها بكلمات توضيحية تختصر الطبيعة والأهداف؛ يفكِّرون هكذا لكي يسدُّوا المداخل على المتطفلين الأرذال ورؤوس الأموال المجهولة المقتحمة التي تستغل انتشارهم وغالبا تريد مشاركتهم المجد لا البذل والنضال، وأخيرا حتى يوفروا مكانا قانونيا يمكنهم من خلاله ممارسة النشاط بأمان وارتياح، وخلق حركة شعرية أرحب، والإعلان عن جائزة في الشعر، باسمهم، تُمَوِّل نفسها بنفسها وتُضَاف إلى الجوائز الرَّاقية.

“تجربة الخمسة” تجربة باذخة الجمال في جميع تجلِّياتها، ولا أُغْرِبُ في الكلام إذا قلت إنني أنا هي وإنكم أنتم هي، لكن أظن المعنى قريبا مفهوما؛ هو أننا يجب أن نحلم بوجودها بل نخلقها في دوائرنا المختلفة خلقا، للشعر وللنثر وشتى الفنون والمعارف، ونؤازرها بقوة.. فما أغنانا بها وما أغنى بلدنا العريق، تجربة هي البياض الذي يمحو السواد والإشراق الذي يفني الظلمة.

عبد الرحيم طايع

شاعر وكاتب مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock