في وقت مبكر من شهر يوليو الجاري، رفعت قوات الجيش السوري علمها على مدينة درعا الجنوبية، واحتفلت بهذه المناسبة. وبرغم أن أنهار الدماء ستظل تجري في أرض سوريا، إلا أن هذه الرمزية لا يجب أن تمر دون التوقف عندها، وتناولها بالبحث.
وتقول مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية في تقريرها حول هذه التطورات: لقد تم أخيرا سحق الثورة التي اندلعت شرارتها الأولى في هذه المدينة في 6 مارس 2011، وشارفت الحرب الأهلية التي مزقت سوريا شر ممزق، وزعزعت الاستقرار في عدد من بلدان الشرق الأوسط وأوربا، على وضع أوزارها في القريب العاجل. وانتصر بشار الأسد – الذي كان سقوطه مجرد “مسألة وقت” – على خصومه بمساعدة روسيا وإيران وحزب الله.
لكن ما يقض مضجع واشنطن الآن هو الضجة التي ستثار يوما ما عندما يتم مناقشة حقيقة أن أعداد السوريين اليوم صارت أقل بحوالي 500000 عما كانت عليه عندما نقشت مجموعة من الصبية بألوان الطلاء عبارة “الشعب يريد إسقاط النظام” على جدران منازل درعة قبل أكثر من سبع سنوات. وبعد حسم الصراع في سوريا، بات ما يتعين التفكير فيه الآن هو أهداف الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط الجديد، ومكانها ومكانتها في هذه المنطقة الحيوية من العالم.
ارتباك واشنطن
تكمن بداية هذا التفكير في التخلص من الشعارات التي هيمنت على السياسات الخارجية الأمريكية في المنطقة منذ وقت طويل، وأسهمت في ارتباك الموقف الأمريكي وعجزه في سوريا وما بعدها. ربما لا يوجد أحد من المنتمين لمؤسسة الحكم في واشنطن لم يتلق في مرحلة ما من حياته المهنية تحذيرات شديدة اللهجة بشأن خطورة التفكير باستخدام القياس، لكن هذا لا يعني أن مثل هذه الدروس صادفت آذانا صاغية بصورة منتظمة.
لقد اندلعت الثورة السورية في وقت خيالي، بدا فيه وكأن ينابيع الحرية تتفجر في كل مكان في الشرق الأوسط. وكان استعراض القوة الشعبية، الذي بدأ في درعة – بعد سقوط نظامين عتيدين في تونس ومصر – ينتقل من مكان إلى آخر. أدى هذا إلى إرباك حسابات الدبلوماسيين وصناع السياسات والمحللين، وجعلهم غير قادرين على التمييز بين نموذج بشار الأسد ونموذج بن علي، أو بين بنية النظام السوري وبنية النظام المصري.
ولأن المجتمع السياسي لم يتوقع استمرار الزعيم السوري طويلا، فقد وقف عاجزا أمام استراتيجيته الأشد وضوحا والأعمق تاثيرا، والمتمثلة في عسكرة الثورة. في هذا الوقت، فإن الميليشيات، والجماعات الجهادية، والقوى الإقليمية المتنافسة في سوريا – إضافة إلى التدخل الروسي – عقًدت مهمة تحديد المصالح الأمريكية في الصراع.
ورغم أن واشنطن قامت في الوقت المناسب بإدانة عمليات القتل، وإرسال مساعدات إلى اللاجئين، وتدريب – ولو بقدر من الفتور – متمردين منتقين بعناية، والقضاء على تنظيم الدولة الإسلامية، إلا أنها بقيت خارج دائرة الصراع في سوريا. لم تكن هذه السياسات خاصة بالرئيس الأمريكي السابق، باراك أوباما، أو بهدفه في الخروج من الصراعات الشرق أوسطية، وعدم التورط فيها؛ فقد سار على النهج نفسه الرئيس ترامب، باستثناء أن الأخير كان واضحا بشأن ترك سوريا لموسكو بعد القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية.
وبينما استمر سقوط القتلى وتراكم الجثث على الأراضي السورية، لم تحرك واشنطن ساكنا سوى الإعراب عن قلقها بشأن أن يصدر هذا الجحيم عن مشكلة أخرى. فسوريا، بطبيعة الحال، تختلف عن رواندا ودارفور وسربرنيتشا (أي اقتراح آخر سيكون من قبيل التفكير باستخدام القياس) لكنها تمثل حالة أخرى من حالات القتل واسع النطاق التي طالما أربكت حسابات واشنطن، ويبدو أن الضالعين في التاريخ أيضا لا يمكنهم تجنب تكراره.
درس العراق
بنى المحللون وصناع السياسات الذين آثروا أن تبقى الولايات المتحدة بعيدة عن الصراع الدائر في سوريا (أو على أقل تقدير تتدخل في الحدود الدنيا) توجهاتهم على أسباب مقبولة. لقد رجعوا بالذاكرة إلى غزو العراق في عام 2003، وما آل إليه من تداعيات تمثلت في زعزعة الاستقرار في المنطقة، والتمكين لإيران، وتقويض علاقات واشنطن مع حلفائها، وإزكاء نار العنف والتطرف، وتراجع الدور الأمريكي في المنطقة.
لكن يبدو أن هذه الفئة فاتها أن عدم تدخل الولايات المتحدة في سوريا سيؤدي إلى النتائج نفسها من حيث زعزعة الاستقرار، وتمكين إيران، وتوتير العلاقات الأمريكية مع أصدقائها بالمنطقة، وتعزيز الإرهاب العابر للحدود الوطنية. وربما يمثل قرار عدم التدخل سياسة حكيمة، لكن واشنطن تحملت كلفته من رصيد نفوذها في الشرق الأوسط.
يمثل تراجع النفوذ الأمريكي الذي كشف عنه الصراع السوري بجلاء، وعجًل به، تطورا لم يلق الاهتمام الكافي من قبل المجتمع السياسي، لأنه لم يكن من المفترض أن يحدث من الأساس. فكل مقاييس القوة التقليدية تشير إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية – برغم كل شيء – تغرد منفردة بلا منافس في سباق النفوذ في الشرق الأوسط. لكن القوة لا تفيد إلا عند استخدامها، وواشنطن بدت غير قادرة، أو غير راغبة في استخدام هذه القوة لصياغة الأحداث في المنطقة كما كانت تفعل في الماضي، أو بعبارة أدق، تنازلت عن هذا النفوذ.
ملء الفراغ
ربما يمثل هذا تطورا إيجابيا؛ فلا أحد يرغب في تكرار مأساة العراق. لكن موسكو سارعت إلى ملء الفراغ الأمريكي، وقدمت نفسها باعتبارها الشريك الأفضل والأنفع لدول المنطقة. في هذه المرحلة لم يكن هناك مستفيدون كُثر من خارج سوريا، لكن كان يبدو أن ثمة مصالح كبرى، وهو ما يبرر اشتعال واتساع دائرة الصراع.
في هذا السياق، يمكن المقارنة بين مسارعة بوتين لإنقاذ حليف في أزمة (الأسد)، ومساعدة أوباما – كما عاينها حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة – في خروج الرئيس المصري، حسني مبارك، من السلطة بعد ثلاثين عاما، قضى معظمها في تنفيذ السياسات الأمريكية في المنطقة. الاستجابة الأولية القوية التي أبدتها موسكو للحيلولة دون سقوط الرئيس السوري، ثم جهودها لمساعدة الأسد على تحقيق انتصار ظاهري تركا إنطباعا إيجابيا لا يمكن تجاهله. وتمثل سوريا الآن حجر الزاوية في استراتيجية موسكو لاستعادة مكانتها العالمية، ونفوذها الإقليمي الذي يمتد من دمشق شرقا مرورا بحكومة إقليم كردستان ووصولا إلى إيران، وجنوبا إلى مصر قبل أن يواصل زحفه غربا إلى ليبيا.
لا تزال إسرائيل وتركيا ودول الخليج تتطلع إلى واشنطن باعتبارها القائد الأوحد، لكنها بدأت – في الوقت نفسه – تولي وجهها شطر الكرملين لتأمين مصالحها. فرئيس الوزراء الإسرائيلي أصبح لاعبا أساسيا في فريق بوتين، والرئيس التركي ونظيره الروسي، إضافة إلى القادة الإيرانيين، يمارسون دور الشركاء في في سوريا، والملك سلمان يسجل باسمه أول زيارة يقوم بها ملك سعودي إلى موسكو في أكتوبر 2017، والإماراتيون يؤمنون بضرورة وجود الروس على مائدة المفاوضات ذات الأهمية الإقليمية.
نهاية حقبة
على مدى 25 عاما امتدت حقبة كانت تقرر فيها الولايات المتحدة الأمريكية قواعد اللعبة في الشرق الأوسط، وتمسك بزمام نظام إقليمي جعل ممارستها لكافة أساليب القوة والنفوذ في المنطقة أكثر سهولة وأقل تكلفة، واليوم آذنت هذه الحقبة بالأفول.
أخيرا، يكشف الوضع في سوريا عن ازدواجية عميقة يمارسها الأمريكيون في الشرق الأوسط، وعن تراجع أهمية ما اعتبره المسئولون الأمريكيون منذ وقت طويل مصالح واشنطن بالمنطقة، مثل النفط وإسرائيل والهيمنة الأمريكية على المنطقة لتأمينهما. ويتساءل الأمريكيون عن أسباب انتشار القواعد العسكرية الأمريكية في الخليج العربي إذا كانت الولايات الأمريكية تستعد لتصبح أكبر منتج للنفط في العالم.
بعد حربين غير حاسمتين في 17 عاما، لا أحد بإمكانه أن يقدم للأمريكيين أسبابا مقنعة تفسر لماذا يمثل نظام الاسد مشكلة لهم. تبقى إسرائيل سببا شائعا، لكنها أثبتت على مدى أكثر من 70 عاما قدرتها على إدارة شئونها ومعالجة أوضاعها. لقد ركض أوباما وترامب، بقوة على طريق برامج التقشف، وربحا السباق. وتبقى دوافع المجتمع السياسي لعمل شيء ما الوسيلة الوحيدة لحلحلة الجمود الذي يخيم على الشأن السوري، والسياسات التي تجعل ذلك مستحيلا.
وتتساءل “فورين بوليسي”: ربما يمثل فوز تحالف الأسد وبوتين وخامنئي في الصراع السوري فرصة للأمريكيين لمناقشة ما هو مهم في الشرق الأوسط، ولماذا. لكن هذا لن يكون سهلا، فالكونجرس يعاني انقساما حادا وعجزا صارخا، ومنهجية إدارة ترامب في المنطقة تتحدد فقط من خلال ما يشعر به الرئيس من جسارة وإقدام.
لقد استمر ترامب على نهج سلفه في محاربة الجماعات المتطرفة، لكنه حاد عن هذا النهج بنقل السفارة الأمريكية في إسرائيل إلى القدس. كما انتهك ترامب الاتفاق النووي مع إيران، رغم ذلك لم يفعل شيئا منذ ذلك الحين حيال الشأن الإيراني بخلاف استخدام بعض العبارات الفظة. وبينما يعرب ترامب عن رغبته في الرحيل عن سوريا “في القريب العاجل”، يتعهد مستشاره للأمن القومي بالبقاء فيها ما بقيت إيران.
برغم هذا التناقض، وبسببه أيضا، فإن الوقت الحالي هو الوقت المناسب لإجراء حوار بشأن الشرق الأوسط. هناك من يؤكد لأسباب وجيهة أن المصالح الأمريكية تتطلب دورا أمريكيا إيجابيا في المنطقة، وفي المقابل، يؤكد آخرون، لأسباب لا تقل وجاهة، أن الأهداف الأمريكية يمكن تأمينها دون التورط في حروب ومشروعات هندسية مدنية وعمليات سلام ومحادثات في جينيف, وما بينهما، ترتسم ملامح السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط الآن، في مكان وسط بين التناقض والجمود. في ظل هذه الأوضاع، ستواصل سوريا وروسيا وإيران حتما انتصاراتهم.