عندما كانت الحكومات تريد المشورة بشأن التأثير المحتمل لسياساتها، كانت تتجه غالبا إلى الاقتصاديين، هذا النهج بدأ يتغير أخيرا لتتحول الوجهة إلى علماء النفس. الأسباب تبدو مفهومة، فطالما نجح الاقتصاديون لعقود طويلة في إمداد صناع القرار بنماذج متطورة وواضحة نسبيا للتنبؤ بالسلوك المتوقع من الجمهور إزاء سياسات وقرارات يجري العمل على إطلاقها، فيما كانت نظريات علم النفس غالبا لا تسعف في ذلك، وتبدو أقل وضوحا وتحديدا.
في السنوات الأخيرة أدرك كثير من المسؤولين أن فرص ما ينتهجونه من سياسات في الصمود أو الفشل باتت رهنا بالعوامل الاجتماعية والمعرفية والعاطفية للشعوب، وهي أشياء طالما جرى تجاهلها كثيرا في السابق، ولايزال البعض يصر على تجاهلها في أحيان كثيرة.
المفارقة هنا أن الاقتصاديين الكبار أنفسهم قد نصحوا بالتوجه للاستعانة بعلوم النفس، خاصة بعد أن وفر علم الاقتصاد السلوكي، وهو في الأساس مزيج من الاقتصاد وعلم النفس، جسرا جديدا بين صناع القرار وعلم النفس، ليظهر مؤخرا مصطلح “الدولة النفسية” في شؤون إدارة الحكم في عدد من الديمقراطيات الكبرى.
ويشرح الباحث في علم النفس السياسي “مارك وايتهيد” في مقال له هذا التوجه الجديد في أنظمة الحكم، قائلا: “في الوقت الذي نبحر فيه خلال العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، تتخذ فكرة “دولة علم النفس” شكلاً ملموسًا. يمكن رؤية هذا النموذج في المملكة المتحدة، حيث تم تكليف فريق من خبراء علم النفس السلوكي يدعى فريق النظريات السلوكية the Behavioural Insights Team) (BIT) ) بإسداء النصح للحكومة فيما يتعلق بالرؤى والسلوكيات الاقتصادية والنفسية بشأن تصميم سياسات تمتد إلى كافة مناحي الحياة.
وفي فرنسا تم اسناد مهمة تطوير سياسة الصحة العامة إلى فريق متخصص من خبراء علم النفس، وفي أستراليا تعمل لجنة مماثلة على تعزيز تطبيقات علم النفس السلوكي في مجالات السياسة العامة، وفي الولايات المتحدة استعانت إدارة الرئيس الأمريكي السابق بعدد من علماء الاقتصاد السلوكي المرموقين في رئاسة مكتب شؤون الإعلام والتنظيم.
مارك وايتهيد
لماذا الآن؟
أحد الأسئلة التي تطرح نفسها هو: “لماذا نشهد صعود الدولة النفسية في هذه المرحلة بالذات؟”.
يجيب وايتهيد: “إن الإجابة على هذا السؤال توفر في الواقع نظرة قيّمة لطبيعة الدولة النفسية وتأثيراتها. الإجابة القصيرة على هذا السؤال هي أن ما يسمى “الحكومة النفسية “تعكس في الواقع دمجا في الأفكار التي تم استخلاصها بشكل كبير من علم الاقتصاد الجزئي وعلم النفس السلوكي.
ويرى كثير من علماء النفس أن الكتاب الذي ألفه اثنان من كبار المختصين في هذا المجال، هما ريتشارد ثيلر وكاس سنشتاين في عام 2008 بعنوان Nudge: Improving Decisions About Health, Wealth, and Happiness، (التحفيز…. تحسين القرارات حول الصحة والثروة والسعادة) يعد تطورا محوريا في ولادة الدولة النفسية.
في الواقع، فإن الأفكار التي تكمن وراء أطروحة ثالر و صانشتاين مستمدة إلى حد كبير من أفكار كانت قائمة في علم النفس السلوكي والاقتصاد الجزئي في وقت سابق. وبحسب وايتهيد, فإنه خلال الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين، كشف المفكر هربرت سايمون عن بعض أوجه القصور الرئيسية في النظريات الاقتصادية السائدة عن السلوك البشري.
وفي مواجهة النظريات الاقتصادية الكلاسيكية الجديدة، أكدت فكرة سيمون عن “العقلانية المقيدة” أن عملية صنع القرار البشري في الواقع اتسمت بأنها مقيدة بدورها بالقيود المعرفية الرئيسية ذات الصلة في كثير من الحالات، والنقص في المهارات التحليلية اللازمة لمعالجة المعلومات المتاحة بشكل فعال.
تحفيز عاطفي
في نهاية المطاف، يشير عمل سيمون إلى أن قدرًا كبيرًا من عملية صنع القرار البشري لا يعتمد على العمل العقلاني فقط، بل على أشكال أكثر تحفيزًا عاطفيًا، ما يعني أن الحكومات يجب ألا تعتمد بالكامل على العقلانية المطلقة وتهمل الجوانب النفسية والعاطفية والثقافية للشعوب.
و يشير وايتهيد إلى أنه لفترة طويلة من الوقت أظهرت أبحاث علم النفس السلوكي والتصميم المعرفي أن التغيرات الطفيفة في طبيعة بيئات الاختيار التي تحيط بالناس يمكن أن يكون لها تأثيرات كبيرة على السلوك البشري، ومن هنا تستمد رؤى علم النفس السلوكي والتصميم المعرفي أهميتها في الدول النفسية الناشئة.
ورغم تصاعد الاهتمام بهذا التوجه في السنوات الأخيرة، إلا أن ثمة بدايات مهدت لهذا النهج في عقود سابقة، فمنذ القرن التاسع عشر على الأقل كانت الحكومات في المجتمعات الليبرالية تأخذ في الاعتبار مبدأ منع “الأذى للآخرين”، الذي على أساسه حظرت العديد من الحكومات التدخين في الأماكن العامة المغلقة، لحماية غير المدخنيين من مخاطر التدخين السلبي، دون أن يمتد الأمر إلى حظر التدخين عامة رغم ما يلحقه من أضرار بصحة الفرد، ما يعني أن الدولة بإمكانها تشجيع السلوكيات الصحية دون الاضطرار إلى تآكل الحرية الشخصية.
تطبيقات ناجحة
ومن الأسباب التي مهدت لهذا التطور الأخير بالتوسع في الاعتماد على العلوم النفسية من جانب واضعي السياسات، ما شهده العقد الأخير من زيادة سريعة في معدلات الديون الشخصية في العديد من بلدان العالم، وما ترتب عليها من تأثيرات مدمرة لأزمة الائتمان والركود الاقتصادي في اقتصادات أوروبا وأمريكا الشمالية. كما أن عدم إعطاء اهتمام كاف لأنماط الحياةالشخصية غير الصحية أفضى إلى ارتفاع غير مسبوق في حالات السمنة وأمراض القلب والسرطان والسكري، ما أدى بالتالي إلى ضغوط في الإنفاق العام لتمويل أنظمة الرعاية الصحية، كما تم توجيه اهتمام أكبر لتطوير نظم المعاشات التقاعدية للموظفين وتحسين برامج مساعدة الناس في سوق العمل وغيرها من المجالات، ما أسهم في توفير عشرات الملايين من الجنيهات، حسب خبراء موثوقين.