رؤى

«الصورة».. التوظيف السياسي

لا يسكن المجاز السياسي عالم الكلمات فحسب، ولا يقتصر الأمر على استنطاق الصمت به، وكذلك الإشارة، إنما يحل أيضا في الصورة، بدءا من الرسم والصور الشعرية والبلاغية وانتهاء بالصور الذهنية، ومرورا بالفوتغرافية والمتلفزة والمبثوثة إلكترونيا، ويتعدى الأمر هذا إلى التفكير ذاته، فنحن حين نتخيل أو نمعن في شيء أو أمر، حتى لو كان مجردا، ليس بوسعنا أن نزيح من رؤوسنا تلك الصور التي تتوالى، حتى ولو كانت لشكل الحروف والأرقام، وليس بمكنتنا أن نهرب من التفكير في صورة من يطلب منا ألا نتصوره، وهو الله ، ليس لأنه سبحانه “ليس كمثله شيء”، إنما أيضا، لأن الوصول إلى صورته الكلية الحقيقية مستحيل.

ربما لهذا رأى أرسطو أن التفكير يستحيل بلا صورة، ووصف إيل جانس زماننا بأنه “عصر الصورة”، وآمن رولان بارت بأننا نعيش في رحاب “حضارة الصورة”، واعتبر آرثر إيزابرجر أننا قد انتقلنا من عالم الكلمة إلى عالم الصورة، وأن مثل هذه الرؤية ستمارس الهيمنة أو السيادة علي باقي الأحاسيس الأخرى، لاسيما بعد أن اقتحمت الصورة كل مجال، وكل مكان، حسبما يرى شاكر عبد الحميد في كتابه البديع “عصر الصورة”.

لم تعد الصورة بألف كلمة كما يقول المثل الصيني، بل صارت في “عصر الصورة” بمليون كلمة أو يزيد. فنحن نعيش حقا في عالم الصور الضوئية الإليكترونية، بعد قرون من سيادة الصورة الفوتوغرافية والرسوم، ومع تطور التلفزة سيكون بين أيدينا الآن جميع أنواع الصور التي لم تشاهدها أبدا في حياتنا وذلك من خلال الفيديو الذي ساهم في أن تلعب الصور دورا مهما ومتزايدا في حياتنا المعاصرة.

وربما أدرك نابليون بونابرت أن رسما له بوسعه أن يعزز أسطورته العسكرية، لكن صاحبه الرسام دافيد ( 1748 ـ 1825) لم يصل إليه ما يرمي إليه القائد الفرنسي التاريخي، ولذا لم يطق الأخير سوى جلسة واحدة إلى رسام متمكن، بينهما إعجاب متبادل، انتهى فيها من رسم جزء من رأس الجنرال، الذي لم يلبث أن شعر بالسأم، لاسيما أنه كان يريد من صاحبه أن يرسمه وهو يمتطي جواده في ساحة المعركة على رأس جيش جرار، بينما كان ديفيد يفضل أن تكون صورة عادية تخلد رسم الجنرال، لتعرف الأجيال المقبلة ملامحه.

نابليون بونابرت

بين ما كان يراه أرسطو، وما دار في خلد نابليون، تسكن مجازات الصورة، وتمتد إلى المعاني السياسية إن كان هذا مقصدها، أو أن هناك من يؤولها أو يشرح مكنوناتها على نحو سياسي، وهي مسألة قائمة، ليس فقط في الصورة المتلفزة والفوتوغرافية المرتبطة بالسياسة في شكل مباشر، إنما في الكثير من الرسوم التشكيلية، على اختلاف مدارسها، كأن يقف أحدهم أمام لوحة لفنان، في أي مكان، ويقول: “إنها تعبر عن اغتراب الإنسان، وجوعه إلى الحرية”.

لكن الصور الفوتوغرافية نفسها يراد منها أحيانا الذهاب إلى معاني سياسية مباشرة، مثل تلك التي التقطها كلارك فرومان للهنود الحمر في أريزونا ونيومكسيكو بين عامي 1895 و 1904، بغرض جلب تعاطف إلى قضيتهم، وشفقة عليهم، جراء الأفعال الشنيعة التي ارتكبها ضدهم المهاجرون البيض وهم يجهزون عليهم للاستيلاء على أراضيهم في أمريكا الشمالية. وكذلك مثل صورة الولد اليهودي الصغير الذي تم التقاطها في العاصمة البولندية وارسو عام 1943 أثناء جمع الأدلة على فظائع النازي، حيث أظهرته وهو مصلوب الأيدي، وعلى وجهه فزع شديد، وحزن دفين.

لهذا كان من الطبيعي ألا يهمل جورج لايكوف وهو يحلل الاستعارات التي تقتل في حرب الخليج دور الصورة، والسلطة التي تمارسها على كل من يراها. وقد انطلق في رؤيته تلك من أن للبنايات عدة استعارات، فهي قد تكون نائمة أحيانا في رؤوسنا، في انتظار من يوقظها. وهنا رأى أن بنايتي مركز التجارة العالمي بنيويورك اللتين تم ضربهما في 11 سبتمبر 2001، ظهرتا كرأسين، فيما تبدت نوافذهما كعيون، وصارت قمة البرج هيكلا أو معبدا أما الطائرة التي اخترقته فكانت رصاصة تخترق رأس أحدهم، والنيران المتصاعدة من الجانب الآخر كانت دما ينبجس، وبدت البنايات العالية، من قبيل الاستعارة، أناسا تنتصب في شموخ، وبذا تحول كل برج إلى جسد آدمي فارع الطول، يتهاوى حين تصطدم به طائرة انفجرت، فتحولت إلى كتلة من اللهب. وكل هذا أريد له أن يشكل جزءا من القوة ومن الرعب الذي نحياه حين نراه، وهو ما استغلته الولايات المتحدة وهي تعلن وقتها أنها القوة العسكرية الأكبر في العالم المعاصر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock