يقول د. صبحي وحيدة، مؤلف كتاب “في أصول المسألة المصرية”: درج الذين كتبوا في المسألة المصرية علي اعتبارها مسألة خارجية وقصروا لذلك كتابتهم علي استعراض علاقات مصر ببريطاينا العظمى، ولكن كتاب “في أصول المسألة المصرية” يرد هذه المسألة إلى ظروف مصر الفكرية والاقتصادية والاجتماعية ويجعل منها مسألة داخلية وهو يحلل هذه الظروف الداخلية بشكل علمي حتي يمكن الاهتداء لحلها.
يقسم المؤلف الكتاب إلى خمسة فصول: الفصل الأول عنوانه “الفتح العربي” ويشرح فيه المؤلف بتمكن التحولات العالمية التي لحقت بحضارة البحر المتوسط وانتقال مركز التجارة العالمية إلي المحيط الأطلنطي، وهو ما قطع مصر عن علاقتها بالغرب القديم وبقيت بعيدا عن التطورات ا لاقتصادية والفكرية والاجتماعية التي حدثت فيه. الفصل الثاني، عنوانه: “حكم المغل” ويقصد بهم المماليك ونظم حكمهم ووضع الاقتصاد المصري في زمانهم وما قاد إليه اضطراب حكمهم من كوارث حلت بالاقتصاد المصري، وهو يحلل الأسباب ويلقي ضوءً مهما علي عصر المماليك ودور المصريين في ظل هذا الحكم.
الفصل الثالث، عنوانه: “الموجة الغربية”، ويتناول النهضة الأوروبية الحديثة وعلاقة أوروبا بالسلطنة العثمانية وأثر ذلك في حياة المصريين خصوصا الاقتصادية تحت حكم محمد علي وعباس وسعيد وإسماعيل. ويناقش الفصل الرابع، وعنوانه: “أعراض المراهقة” تأثير الموجة الغربية علي حالة مصر الفكرية والاقتصادية والاجتماعية وما عانته البلاد من حالة ضعف وإهمال شؤونها، ويري في الصناعة ونهوضها سبيل نهضة مصر وأساس التقدم في الحضارة الحديثة.
محمد على والخديوي اسماعيل
ويعرض الفصل الخامس، وعنوانه: “عقدة النقص” للافكار الفاسدة التي تتحكم في الحياة المصرية، وأهمها ما يُقال عن تعود الاستبداد والخلط بين الشئون الروحية والزمانية والاعتقاد في الخرافات والقصور عن الاقتصاد الصناعي والتأرجح بين قيم الشرق وقيم الغرب. ويرى المؤلف أن السبب الرئيسي للظروف الحاضرة التي تعيشها مصر – عام 1950 – ليس إلا فقر الدم الاقتصادي الذي أصابها تحت حكم المماليك.
ويقول المؤلف: إن الذين يردون فساد حياة المصريين إلي طبيعة العامة لدينا، وهم غالب أهل الرأي وإن لم يعلنوا ذلك، أو يعزونه إلي تربص بعض الدول بنا قبل كل شيء وهو ما يتجه إليه تفكيرنا عادة، ويريدون أن يجدوا في ماضينا ما يدعمون به رأيهم، يظلمون هؤلاء العامة ويظلمون ماضينا علي حد سواء. ويضيف: الحقيقة أننا يجب أن نبحث عن أسباب هذا الفساد في تقلبات الحياة العالمية وعقد النقص التي خلفها لنا ماضينا العثماني – الإنجليزي وثقافتنا الهزيلة ثم انسياقنا خلف شهوة الضجيج الفارغ هذه التي ينفرد بها عهد الطفولة في حياة الأفراد وحياة الأمم دون الجهد الصحيح الواجب.
أسلوب صبحي وحيدة ذو طابع بانورامي كلي به إحاطة وتمكن وتعمق، وهو يحيل في كل ما يذكره ويتفلسف بشأنه إلي مراجع أصيلة عربية وغربية، ويشرح كيف تعربت مصر مثلا، مرجعا ذلك إلي فيض القوى البشرية التي تجمعت في الجزيرة العربية قبل الإسلام وعبرت عنها اجتماعيا في موجات الفتح الإسلامي لمصر والمنطقة العربية. ويتابع: المثير للدهشة أن تعاظم العنصر العربي في مصر كان يمثل تحديا للحاكمين وليس عنصرا داعما لهم.
ويشير المؤلف هنا إلي أول مصري كتب عن مصر بعد الفتوحات الإسلامية، وهو ابن عبد الحكم في كتابه المعروف “فتوح مصر وأخبارها” في القرن ا لثامن الميلادي، ويراه يعبر عن مجتمع عربي بارز المعالم مثل مجتمعات دمشق والمدينة ومكة المعاصرة، فأهل هذا المجتمع عرب وتفكيرهم عربي وتقاليدهم عربية وليس في عروبة من ليس بينهم من أصل عربي كابن عبد الحكم نفسه أي تكلف أو زيف.
ويرى المؤلف أن المجتمع المصري مازال بعد مجتمعا عربي الأفق والروح والتفكير، وأغلب نوابغه في قيادة الحركة القومية كالعقاد وهيكل وطه حسين، يكتبون عن “الصديق أبو بكر” و”عبقرية علي” و”علي هامش السيرة”، بل إن من يقرأ كتاب “قبائل العرب في مصر” للطفي السيد وهو من أنبغ من أنجبت مصر يلمس فيه نعرة عربية بارزة.
محمد حسين هيكل، عباس العقاد، طه حسين، أحمد لطفي السيد
وفي كل ما يأتي به في كتابه يناقش المؤلف آراء المستشرقين في المسألة ويوردها محيلا إليها، كما يورد المصادر العربية كالمقريزي في الخطط، والجبرتي في تاريخه، وابن إياس في بدائع الزهور في وقائع الدهور. ويعتبر المؤلف أن ظهور المماليك له علاقة بالغزو المغولي والغزو الصليبي علي العالم الإسلامي، ويقول إن المماليك بتقاليدهم المغولية ذات الطابع العسكري وراء تراجع الطابع المدني لمصر، كما أن طبيعة نظمهم العسكرية قادت قبل مجي الحملة الفرنسية لإفقار مصر بعد أن كانت أحدى الحواضر العربية الكبري.
الكتاب موسوعة تغوص بعمق وتمكن في تحولات التاريخ الاجتماعي والاقتصادي والعسكري لمصر برؤية فيها إحاطة وبأسلوب سهل رغم صعوبة القضايا التي يناقشها، ويحتاج كل مصري إلي قراءة هذا الكتاب، خاصة الباحثين والسياسيين ومن يتصدون للشأن العام، فالمسألة المصرية لا تزال بحاجة إلي أجوبة لأسئلة العصر الجديد الذي تواجهه تحديات أكثر مما كانت عليه عام 1950، التي كتب المؤلف فيها كتابه.