رؤى

تحرير الأمة من فقه الخلافة

دعا فقه الخلافة القديم إلى طاعة الخليفة، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك، وأن يقدم المواطن الطاعة ما أقام الخليفة الصلاة. هذا الفقه كان قائما على نظام للحكم تحت عنوان الخلافة، واكتمل فقهه مع الدول ذات الطابع الإمبراطوري، خاصة الدولة العباسية، ولو عدنا إلى أهم كتابين في الموضوع وهما “الأحكام السلطانية والولايات الدينية”، لأبي يعلى الحنبلي، وكتاب الماوردي الشافعي بنفس الاسم، لوجدنا أن الاختلافات بينهما طفيفة في بعض الاجتهادات، حتي إن الكتابين طُبعا في مجلد واحد وكان يُكتب على الهامش ما خالف فيه الماوردي أبا يعلى.

وكتب الخلافة القديمة مثلا تحدثت عن القرشية،  وأنها شرط في الخليفة، وتحدثت عن الإمامة باعتبارها نظاما سنيا في مواجهة اجتهادات أخرى للشيعة وللخوارج، أي أنه يمكننا القول بكثير من الاطمئنان أن مسألة  الخلافة والإمامة في كتب الفقهاء القدامى تدخل تحت عنوان علم الكلام، وليس تحت عنوان النظم السياسية بمفهومها المعاصر، فقد تحدث أبو يعلى والماوردي مثلا عن الولاية العامة والولاية الخاصة، وكان النظام السياسي يتمركز بقوة حول شخص الخليفة أو السلطان، بينما يقف إلى جواره متواضعا ولاية المفتي وولاية القضاء.

ولو لاحظنا تسمية كتب الفقه السياسي لأبي يعلى والماوردي لوجدنا عنوانها “الأحكام السلطانية والولايات الدينية”، فالولايات من منظور هذا الفقه هي ولايات دينية، والخليفة باعتباره مجتهدا وإماما يجتهد من منظور ديني، ويحكم من منظور ديني، لقوة الدين في تقديم تفسير لكل الظواهر في هذا الوقت المبكر من تطور الدولة الإسلامية من ناحية، ولبساطة النظم السياسية وعدم تعقدها كما هو الحال الآن في العالم المعاصر، ولغياب يبدو شبه تام للمواطن الإنسان في هذه اللحظات من التطور التاريخي للأمم.

لاحظ بن خلدون أنه مع تطور المجتمعات الإسلامية وتعقد نظمها السياسية تراجع المضمون الديني للولايات لصالح ما اعتبره مضمونا سلطانيا، فلم يعد الاحتساب منصبا دينيا، وإنما هو منصب سلطاني، أي تحكمه قواعد المصلحة والمفسدة وخدمة المواطنين في تحقيق الأمن والنظام والعدل، فأصبحت الشروط تتحدد ليس من منطلق ديني وإنما من منطلق الكفاءة والشروط التي تحقق هدف الوظيفة .

مع تعقد النظم السياسية تحولت الولايات إلى دواوين، وانتقلت السلطة من الطابع الشخصي إلى الطابع المؤسسي الذي تحكمه لوائح وقواعد وقوانين ذات طبيعة مدنية غير منصوص عليها في الشريعة، ولكنها لا تعارضها ولا تتصادم مع منطقها وأخلاقها. ومن ثم، فإن وضع شرط الدين ليكون أحد شروط تولي الوظائف في الدولة المعاصرة لم يعد مطروحا، وإنما الشروط تتحدد من منطق امتلاك الشروط المطلوبة للوظيفة، أو من منطق الانتخاب أو الاختيار الشعبي عبر صناديق الاقتراع، حيث يختار المواطنون في الانتخابات الحرة من يمثلهم في البرلمان أو في مستويات السياسة المحلية  في الولايات  والأقاليم.

ما طرحه الفقه التقليدي حول نظام الخلافة ليس طرحا مقدسا، وإنما هو طرح تاريخي متصل بطبيعة العمران البشري والاجتماع الإنساني للنظم السياسية والاجتماعية والحضارية، ومن ثم، فهو يدخل تحت ما أطلقنا عليه “الاجتهاد السياسي” وهذا الاجتهاد السياسي ابن عصره وزمنه، وليس شأنا ممتدا يتجاوز العصر والزمن، وإلا كنا كمن يحاول حل مشكلة العصر والإنسان اليوم على المستوى التقني بأدوات العصور السابقة أو القرون الغابرة، متجاهلين التطور التكنولوجي والعلمي الهائل.

نفس التطور حدث في طبيعة العمران والاجتماع، وأصبح الاجتهاد السياسي الجديد مطلبا ضروريا، يقوم على نظم سياسية جديدة، الأصل في تأسيس السلطة فيها للشعب حيث هو من يختار ممثليه، وأن السلطة موزعة وغير محتكرة في مركز واحد، وأن هناك سلطات متوازية للتوازن والرقابة، ومعايير للشفافية وتداول المعلومات وتوسيع الشورى والمشاركة للمواطنين، وأحزاب سياسية تتنافس على السلطة عبر برامجها واجتهاداتها لحل مشاكل الدنيا والناس والمواطنين، وأن لا يكون هناك حاكم مؤيد كما كان الخليفة، وهناك دستور هو الوثيقة الرئيسية التي تعد مرجعية كل العمل السياسي والاجتماعي، وفي سياق التأسيس لفقه سياسي جديد لا يجوز الخلط بينه  وبين الفقه التقليدي القديم بحيث يتم الاحتجاج بالأحاديث التي تقول إن الخلافة في قريش، فنظام الخلافة لم يعد موجودا، ونحن أمام نظام جديد تحكمه قواعد ونظم مختلفة.

يمكننا بالطبع الاحتكام إلى القواعد الكلية العامة التي قررها القرآن والحديث في ضرورة أداء الأمانات إلى أهلها، والحكم بالعدل، والالتزام بالصدق، وعدم الخداع، كما يمكننا الاستفادة مما وصلت إليه حكمة الغرب والشرق في تحقيق أفضل ما يخدم الإنسان ويحقق كرامته ويحقق الإنجاز والتقدم للأمة.

نحن أمام تحد جديد، يتمثل في بناء نظام سياسي مختلف تماما عن ذلك النظام القديم الذي كان يسمى الخلافة، وهذه هي المساحة المهمة التي يجب بذل الجهد فيها بفقه يراعي طبيعة العصر والإنسان والعمران والعالم، وحينها لا يحق لأحد أن يستدعي النصوص التي حكمت فقه الخلافة ليواجه بها نظمنا السياسية الحديثة، لأن لها منطق مختلف قائم على اجتهاد سياسي مختلف لعصر ولإنسان مختلف.

كمال حبيب

أكاديمي مصرى متخصص فى العلوم السياسية

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. استمعت إليك في برنامج “انا الشاهد” على ال bbc
    وعجبت من كل هذه الأحداث والأحوال التي عشتها، مع أن الأمر لا يحتاج لكل ذلك لكي تصل إلى الفكر الجديد الذي تعاقده اليوم، والذي هو، أن لا تعمل في مجتمع خاص خارج مجتمع الأمة، وأن تعمل ضمن مجتمع الأمة.
    يا ليتك اختصرت كل ذلك، ووفرت كل هذه السنين وهذه المعاناة، واعتديت إلى ما اهتديت إليه أخيراً.
    أدعوك لتسخير كل ما لديك اليوم من إمكانات، لإعادة إحياء رسالة المسجد، للعمل على النهوض الشامل بالأمة على منهج المسجد النبوي الشريف، في زمن النبي عليه الصلاة والسلام وزمن الخلفاء الراشدين عليهم الرضوان، المنهج الذي ارتقى بالأمة إلى السيطرة على إمبراطورية الفرس الإمبراطورية الروم معاً، في اقل من ٢٠ سنة، حيث كان المسجد النبوي الشريف هو المؤسسة التربوية التنموية العظيمة، التي بنيت على قاعدة بسيطة هي “الكل يُعَلِّم والكل يتعلم من الكل”، المؤسسة التي كانت تعمل على مدار الساعة في جميع أيام السنة.
    إن أردت أن نستزيد عن الموضوع فلديك الآن بريدي الإلكتروني.
    وهاتفي والواتس أب هو:
    ٩٦٢٧٨٥١٧١٢١٥ الاردن

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock