ثقافة

الفتوى بين التأميم والإطلاق.. من محمد علي إلى اليوم

تزامنا مع نقاش البرلمان المصري حاليا لمشروع قانون تنظيم ممارسة الفتوى، وحالة الجدل التي صاحبت الدعوة لتجديد الخطاب الديني والحد من فوضوية الافتاء، عقد “منتدى الدين والحريات” ندوة “الفتوى والدولة في مصر الحديثة” للباحثة فاطمة حافظ يذكر أن فاطمة حافظ باحثة ومؤرخة مصرية حاصلة على درجة الدكتوراه في التاريخ جامعة القاهرة وحاصلة على جائزة الدكتور محمود صالح المنسي من كلية الاداب جامعة القاهرة عام 2018.

ذهبت الباحثة إلى أن الفتوى في القرن التاسع عشر مثلت مصدر قلق للسلطة ومن ثم عمدت إلى السيطرة عليها وتحديد منابعها، وأشارت إلى أن عملية تنظيم الفتوى في العصر الحديث مرت بعدة مراحل، ففي العصر العثماني كانت الدولة تتبنى المذهب الحنفي ويتم تعيين المفتين من قبل الدولة العثمانية، لكن وجود الأزهر في مصر جعل العثمانيين يفضلون عدم الصدام مع الأزهر بمدارسه التقليدية في الفقه والمذاهب فأخذت الممارسة المنحى الحر دون إملاء من الدولة، واستمر ذلك حتى عصر محمد علي الذي رأى في الاستحواذ على الفتوى وتطويعها مسألة ذات أهمية في مشروعه الإصلاحي لتحديث وتمدين الدولة.

ولم يمض أكثر من سبع سنوات فقط من حكم محمد علي، وتحديدا عام 1813، حتى حصر القضاء الشرعي  على المذهب الحنفي تماهيا مع الدولة العثمانية، وبحلول عام 1835 حصر الإفتاء في العمل بأصح الآراء في المذهب الحنفي، ومن هنا بدأ تعيين مفتي للمحروسة أو مفتي الديار المصرية، وتمددت سطوة الافتاء لتشمل سائر وزارات ودوائر الدولة، ما جعل الدولة المصرية تشهد نمطين من الإفتاء سيظلان يحكمان مسار وشكل الإفتاء لبعض الوقت.

كان النوع الأول هو ما يمكن أن نطلق عليه الافتاء الرسمي أو الوظيفي، لأنه ارتبط بالدولة، بعد أن أصبح المفتي من موظفي الدولة، وتشكل هذا الافتاء الحكومي بالتدريج، في البداية كان هناك مفتي الديار المحروسة، وأمين الفتوى كمساعد للمفتي، وبعد عام 1835 أصبح هناك مفتي للمديريات الكبيرة، وأصبحت الدولة تقوم بتعيين مفتِ لكل مدينة، لكن هذا القرار لم يتم تنفيذه  إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر مع أبناء محمد علي، لاسيما سعيد وعباس حلمي.

وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر توسعت مهمات وصلاحيات المفتي بشكل كبير، وبات يقوم بدور المراقب الديني أو الحارس للشريعة، فأصبح منوطا به التصديق على الدعاوى القضائية لاسيما ما يتعلق منها بقضايا القتل وإراقة الدماء، ومع استكمال الجهاز الإداري للدولة توسعت صلاحياته القانونية بحيث أصبح يراجع كل القوانين التي يتم اصدارها، ويراجع  كل ما يدخل المطبعة، ويملك وحده صلاحية  إقرار طباعته من عدمه.

ولم يقتصر الأمر أن يقيس المفتي مدى موافقة المطبوعة للشريعة فيقر بعدم مخالفتها وامكانية طباعتها، تجاوز ذلك إلى الاعتراض أحيانا لأسباب لا تتعلق بالشريعة، مثل حالة الشيخ المهدي العباسي الذي رفض طباعة كتاب “ألف ليلة وليلة” ورأى في انتشاره اشغال للناس بما لا يفيد.

 كان المفتي يراعي في عمله عددا من المبادىء على وجه العموم، أهمها: عدم التصادم والتعرض للنظام العمومي (نظام الحكم)، والحفاظ على الأخلاق العامة، مع عدم الصدام مع الشريعة.

وكان يلي عمل المفتي في صفته وصلاحياته (مفتي مجلس الأحكام) وهو يقوم بمهام وزارة العدل حاليا في استصدار القوانين ومراقبة عملها وتنفيذها، وأصبحت كل الوزارات يعين لها مفتٍ خاص فهناك مفتي لوزارة المالية، ومفتي الضبطية أو جهاز الشرطة، ومفتي الأوقاف، وجميعهم تابعون لمفتي المحروسة.

أما النمط الآخر من الإفتاء، فهو ما يمكن أن نطلق عليه الإفتاء المذهبي الشعبي أو (الأهلي)، والمقصود به افتاء علماء الأزهر، وكانت المذاهب الفقهية الأخرى تدرس بأروقة الأزهر كالمذهب المالكي والشافعي والحنفي باستثناء المذهب الحنبلي الذي لم يدرس في الأزهر حتى ذلك التوقيت، ويتم اختيار (المفتي) بانتخابه من بين كبار علماء المذاهب الثلاثة.

وهكذا صار هناك مفتي شعبي يلجأ إليه الناس في أمورهم الحياتية، ومفتين من هذه المذاهب مخصصون للمساجد الكبيرة في أنحاء مصر، كمفتي المسجد الأحمدي بطنطا ومساجد الإمام الحسين والسيدة زينب  بالقاهرة، وعادة ما كان الناس يلجأون إليه في الفتاوي التي قد تتعارض بشكل أو بآخر مع توجهات الدولة، فعندما جرم القانون (التسحب) من الأرض الزراعية، ويعني فرار المزارعين من الأرض وتبويرها تحت وطأة الضرائب والجبابات التي كانت تفرض عليهم من قبل الدولة، أفتى المفتي الرسمي بتحريم التسحب شرعا، فاضطر الناس للجؤ للمفتي الأهلي الذي كان يفتيهم بإمكانية التسحب ما دام فيها حفظ للنفس ووقاية من السجن نتيجة العجز عن دفع الضرائب.

تذهب الباحثة إلى أن الدولة حين وجدت في النهاية أن ثمة تضارب بين المفتين الأهليين والرسميين، على الرغم من أن المفتيين الأهليين كانوا عادة ما يسيرون في خطى الدولة وليس في تضاد معها، اتجهت الدولة لاخضاع الفتوى لسيطرتها من خلال استصدار ما يسمى (بأذون الفتوى)، ما ترتب عليه نتائج خطيرة كان على رأسها أن حصر الفتوى في مذهب بعينه، وفي أشخاص بعينهم يعتنقون المذهب الحنفي دون سائر المذاهب ألغى تدريجيا دور بقية المذاهب، كما أصبح المجتمع أمام لونين من الفتوى، الفتوى الرسمية والفتوى الحركية، وهي في الغالب تخضع لاعتبارات أيديولوجية، وكان للمذاهب وقتها ما يشبه التنظيم الإداري الذي يعمل على حماية المذهب والدفاع عنه وتجديده والإفتاء وفق قواعده.

وتخلص الباحثة إلى أنه رغم كون المذاهب أصبحت الآن ثابته بدون تجديد، إلا أن هذا لن يؤدي إلى إغلاق باب الاجتهاد، الذي تراه ممارسة حرة يتعين أن تتم بمعزل عن سطوة وتوجيهات الدولة. وعلى الرغم من جدية طرح الباحثة وتأكيدها على أن تقلص دور المذاهب الفقهية وغياب المنهجية المذهبية أدى إلى فتح الباب للعديد من الفتاوى غير المسؤولة، إلا أن ثمة ايجابيات أخرى لتحرر الفقهاء من الانتماء المذهبي، على رأسها عدم احتكار مٌريدي المذاهب الفقهية ومنتميها لعملية الافتاء بما يصطدم مع فقه الواقع وأولوياته، فضلا عن إمكانية استفادة هؤلاء المفتين غير المنتمين مذهبيا من نتاج تطور منهجيات البحث الحديثة في العلوم الإنسانية المختلفة.

بلال مؤمن

كاتب و محرر مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock