سبيل سعادةٍ ومراد عز وإقبال لمحسنة رئيسة
يسرك منظرٌ وصنع بديع وتعجب من محاسنه الأنيسة
جرى سلساله عذب فرات فكم أحيت به مهجا بئيسة
نؤرخه سبيل هدى وحسن لوجه الله ما صنعت نفيسة
على واجهة سبيل نفيسة البيضاء 1796 ميلادية 1211هجرية نقشت هذه الأبيات الشعرية عن كرم وسخاء صاحبة السبيل السيدة نفيسة البيضاء، أم المماليك أو نفيسة المرادية كما كان يطلق عليها، التي أتت جارية إلى مصر في القرن الثامن عشر، وهي شركسية الأصل، وعرفت بـ”نفيسة البيضا” لبياض بشرتها.
في ذلك التوقيت اشتراها علي بك الكبير الذي صار شيخاً للبلد، ومن ثم أعتقها وتزوجها، ومن بعده تزوجت مراد بك وأصبحت تسمى نفيسة المرادية، حتى جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر بقيادة نابليون لتتعرض نفيسة البيضاء للعديد من المضايقات.
صدرت عن سيرتها رواية للكاتب نجيب توفيق بعنوان (أم المماليك) واخرى تحت عنوان “نفيسة البيضا” للروائي مصطفي البلكي، وجسدت الدراما المصرية قصتها في مسلسل (نابليون والمحروسة) بطولة الفنانة ليلى علوي.
ويشير الكاتب والباحث المصري سعيد الشحات إلى الأمر الذي أصدره نابليون بونابرت فى مثل هذا اليوم”1 أغسطس 1798 ” في شأن ما فرض على السيدة نفيسة زوجة مراد بك، والذي يقضي بأن تدفع هي وحدها 600 ألف فرنك عن نفسها وعن نساء المماليك من أتباع مراد بك، ما اضطرها أن تنزل عن حليها وجواهرها ومنها ساعة مرصعة بالجواهر، أهداها لها القنصل مجالون باسم الجمهورية الفرنسية قبل “الحملة” على مصر تقديرا لخدماتها ورعايتها للتجار الفرنسيين.
ويتساءل الشحات: لماذا خصها نابليون بكل هذا المبلغ الضخم؟ وكيف كان وضعها؟ ويورد ما ذكره الرافعي عنها: “هي أكبر شخصية ظهرت بين سيدات مصر في ذلك العصر”. وحسب كتاب “دراسات في تاريخ الجبرتي”، مصر في القرن الثامن عشر لمؤلفه “محمود الشرقاوى”، فإن ظهورها بدأ عندما دخلت في حريم على بك الكبير، فأحبها وتزوجها وبنى لها دارا تطل على بركة الأزبكية فى “درب عبد الحق”، فلما أراد محمد بك أبو الدهب خيانة سيده علي بك تحدث إلى المملوك مراد في ذلك، فاشترط الأخير الزواج بها نظير خيانته، وحدث ذلك بالفعل.
ويتحدث عنها “الرافعي” استنادا إلى الجبرتي، قائلا: إنها كانت على جانب كبير من التثقيف والتهذيب إلى روعة في الجمال وسمو في العواطف، وتعلمت العربية قراءة وكتابة، وأقبلت على الكتب العلمية تطالعها وتدرسها، فارتقت مداركها واكتسبت احترام العلماء والبكوات المماليك الذين كان بيدهم الحل والعقد، واجتذبت قلوب الشعب بما اشتهرت به من البر والإحسان ورفع المظالم وحماية الضعفاء، فعظمت مكانتها بين طبقات الشعب، وسرت شهرتها في الأوساط الأوروبية، إذ عرف عنها الميل إلى تنشيط التجارة والصناعة ومعارضة البكوات المماليك في سلب أموال التجارة، وكانت تتبرع بإعانات شهرية لعائلات أخنى الدهرعليها.
ويروي الجبرتي قصة تبين مدى قدرها، فبعد جلاء الفرنسيين أمر خورشيد باشا والى مصر بإحضارها إلى القلعة، واتهمها بأن جارية لها تسعى للاتفاق مع المماليك العصاة لتحريض الجند على التمرد، فأنكرت التهمة وطلبت الدليل قائلة: إذا ثبت أن جاريتي قالت ذلك فأنا المأخوذة به دونها، فأخرج خورشيد باشا من جيبه ورقة وتظاهر بأنها تثبت ما يقوله، فطلبت الورقة لكنه أعادها إلى جيبه، فوبخته قائلة: “طول ما عشت بمصر وقدري معلوم عند الأكابر، والسلطان ورجال الدولة وحريمهم يعرفونني أكثر من معرفتي بك، ومرت بنا دولة الفرنسيين فما رأيت منهم إلا التكريم، وكان محمد باشا خسرو يعرفني ويعرف قدري ولم نر منه إلا المعروف، وأما أنت فلم يوافق فعلك أهل دولتك ولا غيرهم”.
أما عن الرؤية الروائية والمخيلة فنجدها عند الروائي مصطفى البلكي في رواية تحت اسم “نفيسة البيضاء”. يقول البلكي: عندما كنت أجهز لكتابة روايتي “طوق من مسد” وجدت في تاريخ الجبرتي امرأة تم ذكر اسمها عدة مرات، وحظيت بترجمة قصيرة (وماتت نفيسة خاتون، وهي سرية علي بك الكبير، وكانت محظيته، توفيت يوم الخميس العشرين من شهر جمادى الأولى بمنزلها المذكور بدرب عبد الحق ودفنت بحوشهم في القرافة الصغرى بجوار الإمام الشافعي وأضيفت الدار إلى الدولة وسكنها بعض أكابرها).
ويضيف البلكي: ظل اسمها معي، حتى جاء وقت كنت في زيارة للقاهرة وأخذتني قدماي فكنت أمام وكالتها وكتابها وسبيلها، وبدأت رحلة البحث. ما كان يعنيني الخوض في أحداث تاريخية، وما كنت أريد التاريخ ليكون المهيمن على السرد، أردت أن أكون مع نفيسة الإنسانة وكيف قدر لها وهي الجارية أن تنتقل من الهامش إلى المتن.