رؤى

الحَكْي.. سحر الروح وجموح الخيال

لا يكفُّ البشر، في كل الدنيا، عن سرد الحكايات، يحكون بمدى الأعمار، في الشوارع والمقاهي والمواصلات العامَّة والمتنزَّهات.. تتنوَّع حكاياتهم وتتلوَّن بحسب الظروف والأحوال، فينتقلون من حكايات الجَانِّ إلى الحكايات الخرافية إلى الحكايات الرمزية إلى الحكايات الشعبية.

الحكاية، في معاجم اللغة، ما يُحْكَى أو يُقَصُّ، وَقَعَ أو تُخُيِّلَ. وهي اللهجة أيضا، حكايات الجانِّ: تتناول كائنات فوق الطبيعة، الحكايات الخرافية: من نسج الخيال، لا وجود لها في الواقع، الحكايات الرمزية: ترمي إلى إبراز معنى خُلُقِيٍّ ويكثر فيها استخدام الحيوانات كرموز إنسانية، الحكايات الشعبية: تتناقلها العامة من الناس ذات طابع فلكلوري.

“الْحَكَوَاتِيُّ” لفظ فصيح معناه الرَّاوي الشعبي، كما يُعْرَف في البلاد العربية كسوريا ومصر، ولفظ “الْحَكَّاء” صيغة مبالغة معناها من يقُصُّ الحكاية والقصَّة كثيرا كثيرا في جمعٍ من الناس، وأما كلمة “الحَكِيِّ” فتعني الاستغراق في الحكي عامَّة اللَّيلَ وتعني اللِّسان الذي لا يتوقَّف عن الحكي وتعني كذلك النَّمَّام المُفْسِد من الرجال والنَّمَّامة المِهْذَار من النساء.

تُرْوَى الحكايات بصورة شِفَاهِيَّة، وهو الغالب، ولا يخلو منها بلد من البلدان، لكن في المقام الأول يعنينا بلدنا الحبيب مصر، بما له من المنزلة الرفيعة في نفوسنا وبما له من الخصوصية بين سائر البلدان.

الحكي فن تفاعلي (جماعي وفردي) له قواعده ومهاراته، وككل فن تطور منظره ومحتواه مع الوقت كما استخدم العلم الحديث والتكنولوجيا حتى وصلنا إلى صيغة “الحكي الرقمي” أي الإلكتروني.. فمع ازدهار وسائل الاتصال والتواصل؛ صار ممكنا أن تلعب الوسائط دورها في “عملية الحكي”. هكذا اختلفت الحكايات المعاصرة عن أخواتها السابقات في الشكل والمضمون وساحة العرض أيضا، وإن بقي النطاق مفتوحا للتقليديين ولمن يستخدمون للعرض ساحة معهودة كمسرحٍ أو قاعةٍ أو مكانٍ خارجيٍّ يسمح بالأمر ويستوعبه.

نحن نحكي طوال الوقت في الحقيقة، وما صورة استقبالنا للضيوف أو توديعنا إياهم وذهابنا إلى أعمالنا وعودتنا منها وجدلياتنا الحياتية الروتينية اليومية برُمَّتها إلا جملة طويلة متواصلة من الحكايات التي تجري جريان عقارب الساعة، لكن لعلنا لا نكون منتبهين.

صارت مسألة الحكي دقيقة للغاية الآن ومنظَّمة أضعاف ما فات، بل استقطب الفن الذي كان تلقائيا وعشوائيا في الماضي دارسين متفوِّقين يجيدون اللغات الأجنبية ويعرفون أسرار الابتكارات الحداثية المفيدة في مجالهم البديع المختار بعد أن كانوا عرفوا قدرا كبيرا من أدواته في بواكيره.

في مصر بالذات تفرَّغ لهذا الفن محاضرون متخصِّصون متميِّزون، وأقيمت لأجله وِرَشٌ ومراكز متخصصة، وصار له أساطينه في الإدارة والتدريب والممارسة الفنية الفعلية (حسن الجريتلي، محمد الخميسي، عارفة عبد الرسول، رشا عبد المنعم، سلمى أشرف، هبة بركات، عبير سليمان، نهاد أبو العينين، انتصار صالح، محمد فوزي) وغيرهم..

حسن الجريتلي

حكايات الجدَّات للأحفاد والأمَّهات للأبناء والأراجوز للمتفرِّجين في غابر مُدُننا المصرية وقُرَانا؛ كانت أساسا متينا اعتمد عليه الحكي في ارتقائه سُلَّما فنيا خاصا ووصوله لأعلاه مكتمل الجاذبية، وهكذا ارتبط الحاضر بالماضي ارتباطا وثيقا حميما، ولم تَنْمُ شجرة الحكي الباسقة عندنا نموا شيطانيا بلا جذرٍ راسخٍ في التربة.

دخل التمثيل في طريقة الحكي، ولم يعد الحكي كلمات جامدة يلقيها اللسان على المستمعين بلا تعبيرات حركية تؤكد المعاني المرادة تأكيدا وتوضِّح الغاية المقصودة توضيحا، وبات مستطاعا أن يختفي الحاكي بذاته عن الجمهور مكتفيا بظهور صورته أمامهم في فيديو مباشر يحكي من خلاله حكاية ما، ويرى كل من الجهتين رد فعل الآخر ويشعر به شعورا ممتازا، هذا بخلاف التقنيات الصوتية المتقدمة التي لا يرى الطرفان من خلالها بعضهما لكن يظهر فيها زاهيا كلُّ أثرٍ للفاعلية والمفعولية بينهما.

بطبيعة الحال لم تكن اللغة، الفصحى أو العامية (المسيطرة في مجال الحكي) بعيدة عن أذهان معلمي النشء أصول هذا الفن البسيط المدهش أداءً وكتابةً؛ فركَّز المعلمون معهم في مسائل حيوية كسلامة النطق وأهمية البلاغة وتوخِّي الإلقاء القوي الواثق المناسب لكل موضوع، وبيَّنوا لهم قدرا وافرا من جماليات اللهجة الدَّارجة وغِنَى إيقاعاتها وسُمُوِّها المجهول الذي تظنُّه الأغلبية حِكْراً على الفصحى.

الْحَكَوَاتِيُّ

ليس شرطا أن يكون الحكي نثريا، فقد يكون شعريا عبر قراءة ديوان شعر يدور في فَلَك قضيةٍ جذَّابةٍ. مثل هذا الحكي بالذات يحتاج إلى شاعرٍ متمكِّنٍ ذكيٍّ ليِّنِ الجسد ويتَّسم بالظُّرف أيضا. بالمناسبة، لا تكون الحكايات دائما خفيفة الظِّلِّ، لكنها يجب أن تكون لطيفة باستمرار حتى لو كان طابعها حزينا؛ فذلك مما يساعد جماعة المتلقين على استساغتها وفهمها والاتعاظ بها.

في تعدد أنواع الحكايات متَّسعٌ للتأمُّل والتَّحليل وتفسير ارتباطات البشر بالأحداث؛ فحكايات الجَانِّ (الجَانُّ: الجِنُّ خلاف الإنس) تكون الأطغى عندما يعجز العالم المادي عن منح إجابات عن الأسئلة المطروحة ولا يصبح أمام الحائرين من حلٍّ سوى تجاهله بحثا عن ملاذ بالعالم الموازي الخارق، والحكايات الخرافية تشيع في أوقات لا تشيع فيها المعارف العلمية والفلسفية بل تنزوي انزواء وحينها يصير الفكر الخرافي واحة للراحة، أما الحكايات الرمزية فيروج سوقها أكثر ما يروج في سنوات الخوف المتصل بالقهر السياسي والإحساس بالرقابة لأنَّها التنفيس الآمن عمَّا في الصُّدور، وأخيرا تبدو الحكايات الشعبية هي الأخلد بين الحكايات، بطول الأزمنة، والأكثر نفاذا والأندى بكثافة رواتها في سياقها البَيِّن المفهوم.

هكذا يكون عالم الحكايات بأنواعها المتعددة نافذة كبرى للأشخاص النابهين على الواقع الفعلي لا سيما علماء النفس والاجتماع والتربويين والمثقفين؛ فمنه يقدرون على تحديد طباع الفترة التي يعيشون فيها تحديدا قطعيا، ثم يحاولون الإلمام بمعطيات ما تحدَّد للحصول على البراهين، وقد يقومون بإبلاغ الخلاصات إلى عموم الناس لمعرفة ما يتوجب على الجميع فعله بحيالها.

عالم الحكايات، قبل ذلك وبعده، عالمٌ ساحرٌ أخَّاذٌ، يمتصُّ كمِّيَّاتٍ هائلةً من الإحباط والغضب، ويساعد على تخطِّي الأزمات، ويستطيع شحن الأرواح بالطاقة الإيجابية، ومهما أساء فإنَّه يقود الراغبين في الحقيقة إلى مكامن الأشياء.

عبد الرحيم طايع

شاعر وكاتب مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock