يعد كتاب ” مناخ العصر .. رؤية نقدية ” للراحل سمير أمين تعبيرًا عن رحلة فكرية عميقة تستند علي منهج نقدي تحليلي مكثف ومتسارع للاقتصاد والايدولوجيا وفلسفة التاريخ والثورة التكنولوجية والفكر الاشتراكي، إنه كتاب يعبر بالفعل عن السيرة الذاتية لعقل مبدع خلاق ومؤسس لنظرية جديرة بالنظر والاعتبار، مهما كانت درجة اختلافك معه. باختصار إنه أحد كتب الأصول، التي ما إن تفرغ من قراءتها حتى تكتشف أن ثمة تغيراً ما قد حدث في رؤاك ومفاهيمك وتصوراتك، إنه تغير في اتجاه التماسك واستيعاب الأفق المتدفق نحوك بانفعال.
والكتاب الهام صدر عن دار سينا بالاشتراك مع مؤسسة الانتشار العربي عام 1999، كرؤية نقدية لعصرنا الحديث ومراجعة شاملة لمشروعه الفكري، وإعادة طرح برنامج جديد يستند إلي مرجعية ماركسية وفق ما طرأ علي العقل البشري من متغيرات، انقلبت علي إثرها نظريات وإيديولوجيات ورؤى، وهو من ناحية أخري استكمال لكتابه السابق ” في مواجهة أزمة عصرنا 1997″ إذ يقول إنني رصدت فيه ” ما بدا لي أهم الجوانب الاقتصادية والسياسية لهذا التطور الحديث، فرأيت من المفيد استكمال الدراسة السابقة بطرح آخر يتم التركيز فيه علي الأبعاد الإيديولوجية التي ترمي إلي إضفاء مشروعية علي الممارسات الاقتصادية والسياسية التي ترافق العولمة الرأسمالية الجديدة ” ص 7″.
في البداية يعرض سمير أمين لبعض الإشكاليات والتصورات التي تسببت – في رأيه – في الانهيار العظيم، حيث أدت رغبة السوفييت في تحقيق تراكم اقتصادي عاجل إلي إخضاع المشروع الاشتراكي الوليد لحركة تسارع شديدة ساهمت في تفسخ العلاقة بين طرفي الثورة ( العمال والفلاحين ) ومهدت الطريق لديكتاتورية ستالينية ووضعت التجربة برمتها علي شفي انهيار قادم، وعلي الجانب الآخر نادت الثورة الصينية بإمكانية أخري من حيث أن تعدد المراحل والبعد عن التراكم الاقتصادي العاجل قد يخلص الثورة الشيوعية من لحظات الارتباك التي أصابت الثورة منذ بدايتها، إلا أن الفشل الذي أصاب النموذجين الكبيرين طرح سؤالين هامين وخطيرين للغاية وهما: هل حقا الرأسمالية هي نهاية التاريخ ؟ وهل الاشتراكية فكرة طوباوية ؟ وما ” مناخ العصر ” إلا محاولة للإجابة علي هذين التساؤلين.
الرأسمالية ليست نهاية التاريخ
ففي محاولة الإجابة علي السؤال الأول، ينكر مفكرنا مقولة نهاية التاريخ هذه، بل ويذهب إلي أن هيجل الذي سبق فوكوياما في هذا الإقرار كان قد أعلن في عصره أن دولة بروسيا مثَّلت الشكل النهائي للتطور الإنساني، وهي مقولة تتضمن في بنيتها منحي عقائدياً وارتباطاً مباشراً بالخطاب الديني ، الأمر الذي يعني انتقال الأحكام المطلقة من مجال العقيدة الدينية إلي مجال الفعالية الاقتصادية ، فكما وُصف الدين في العصور الوسطي بأنه هو الذي يحكم الكل ، بالمقابل يمكن القول أن الاقتصاد الرأسمالي في المجتمع الحديث هو الذي يحكم الكل ، وذلك المنظور يرفضه سمير أمين، لأنه تصور لا منطقي وإن كان واقعاً معيشاً بالفعل.
ومن هنا جاءت دعوته إلي ضرورة تجاوز الرأسمالية لأن نموها السرطاني في جسد العالم يعني الإشراف علي موت كل صور الحياة، مما دفعه إلي إدارة حوار حول السمات الثلاث الأساسية للنظام الرأسمالي، وهي ( استلاب العامل – والاستقطاب العالمي – وتدمير الطبيعة ) فالسمة الأولي متعلقة بالبعد الأول من قانون القيمة، وهو الشكل المجرد منه، والمسئول عن عملية اندماج السوق بكل أبعادها من خلال تحقيق فائض ربح يُسهم في تنامي حركة الأسواق وتراكم اقتصادي لدي أصحاب رأس المال المحليين، أما البعد الثاني من قانون القيمة – وهو في نظره غائب عن الكثير من الماركسيين- فهو الشكل المعولم منه والمسئول عن عملية الانتشار الرأسمالي، أي الاستقطاب العالمي الحالي وهو نتاج البعد الثاني لقانون القيمة، والمُفسِر لكافة أشكال التناقض بين المركز والأطراف، ومن هنا يلعب الجانب السياسي والثقافي دوراً كبيراً في مناهضة هذا التوسع، حيث فشلت الماركسية التقليدية في إدراكه، ونظرت للرأسمالية نظرة اقتصادية محدودة وفقاً للمعني الأول من قانون القيمة. أما في حديثة عن السمة الثالثة فيري أن جمعيات ومنظمات البيئة لعبت دوراً في مناهضة كافة أشكال التدمير الرأسمالي لموارد الطبيعة، وهنا يرصد سمير أمين نقطتين غاية في الأهمية، الأولي :أن أنصار البيئة لم يفعلوا أكثر من إعادة اكتشاف ماركس الذي أكد منذ 1863 في الجزء الأول من رأس المال أن قضية الرأسمالية الكبرى هي استنفاد مصادر الثروة وهما الأرض والعامل، أما الثانية فهي أن الرأسمالية خلال العقود الأخيرة، والتي امتلكت فيها زمام الأمور، استطاعت أن تحدث تدميراً رهيباً في البيئة والموارد الطبيعية بدرجة لم يسبق لها مثيلُ في التاريخ.
يعود مرة أخري فيقول إذا كانت الرأسمالية قد نجحت في إدماج تام للسوق العالمي في نمط الإنتاج الرأسمالي وفي توظيف الثقافات الدينية بحيث تخدم مصالحها وفرضت عولمة سياسية وثقافية داخل سياق اقتصادي وإعلامي مسيطر ومهيمن علي عقول البشر، فذلك نظراً لأنه نظام يتصف بمرونة كبيرة وقدرة علي أن يعالج التناقضات التي تظهر في ثناياه بصفة مستمرة، واستعداد لتحقيق نمو متواصل علي المستوي الاجتماعي والصعيد الاقتصادي. وإذا كانت الرأسمالية قد نجحت في ذلك، إلا أن سعيها هذا يأتي علي حساب المصالح الأساسية للإنسانية، فتصاعد ونمو وتطور قوي الإنتاج هو في جانبه الأخر تدهور بيئي خطير غير مسبوق وانتهاك لا أخلاقي لموارد الطبيعة، لأن قواعد التطور التكنولوجي الاقتصادي ( تقوم علي منطق قصير الأجل، ولا تمتد آفاق حساب الربحية إلي أكثر من عشرة أو خمسة عشر عاما ) ص78 ، وكذلك فإن تزايد تركيز الثروة في المراكز وفقر الأطراف المتفاقم بواسطة سياسات مرسومة أدي إلي تزايد مقابل في رفض الهيمنة والتوسع الرأسمالي ، وهو ما يعني أن قدراً كبيراً من القوي الشعبية في جميع أنحاء العالم وقفت في مواجهة شراسة العولمة الجديدة.
إن هذا التناقض بين المصالح الإنسانية والرغبة الرأسمالية في السيطرة هو بلا شك أهم وأخطر قضية مطروحة علي العقل الإنساني والفكر الماركسي، الأمر الذي يفرض أو يفترض حلاً نهائياً وضرورياً من أجل تجاوز حدود الرأسمالية لضمان البقاء البشري. فالخيار الحقيقي صار كالأتي: إما أن تنتج النضالات الاجتماعية تجاوزاً لمنطق الآليات الرأسمالية وقوانينها وإما أن تُقدِم البشرية علي فعل انتحار جماعي وتدمير تام للكرة الأرضية. إن هذا التحدي الكبير يستلزم البحث عن بلورة مشروعات مجتمعية عقلانية تسعي إلي إلغاء الرأسمالية وإحلال نظام آخر بديلاً لها قادر علي إحداث تطور جذري في مفهوم التقدم الاجتماعي وعلاقاته بالأطراف الاخري من أشكال التقدم, والبديل صار الآن وأكثر من أي وقت مضي هو الاشتراكية، فلابد وأن تعود البشرية من جديد لاستدراك عقلانيتها.
الراحل سمير أمين
روشتة الحل الاشتراكي
وفي معرض إجابته علي السؤال الثاني، هل الاشتراكية فكرة طوباوية ؟ .
لم ينكر سمير أمين أهمية هذا السؤال ونفوذه الطاغي في السنوات الأخيرة علي صعيد الفكر العالمي.إلا أنه ينظر إلي المعطيات التي أدت إلي طرح هذا السؤال بصورة متسقة مع تصوره العام الذي ينظر إلي التجارب الرأسمالية السابقة باعتبارها رأسمالية بدون رأسماليين. ومن ثم فلا تزال الفكرة الاشتراكية الأصيلة رهن المستقبل وممكنة التحقق ولكن وفق شروطه وقواعده التي يؤسسها لإنتاج حالة جديدة متجاوزة للنمط الرأسمالي، ففي البداية يؤكد علي أن هناك ضرورة لفتح حوار عالمي حول استراتيجية شعبية تواجه النظام العالمي الحالي، ويدور هذا الحوار حول تحديد القدرات والأهداف المرحلية وتعبئتها من اجل تحقيقها ( فالاختلاف والتباين بين المراكز والأطراف ليس خلافا أو اختلافا ثقافيا بل اختلافا اقتصاديا بالأساس، ومن هنا فإن أهم النقاط في هذه الاستراتيجية هي تفعيل مقولة ” لابد من أن يكون الفكر عالمي الآفاق والعمل محلي الصعيد “) ص 105، مما يعني إحداث توافق بين مصطلحي الإصلاح و الثورة، فيدعو إلي الإصلاح الجذري كمقولة جديدة تحدث توازناً مطلوباً وواسطة العقد بين المنهج الإصلاحي للاشتراكية الديمقراطية والنهج الثوري في التراث الماركسي، وبمالا يؤدي إلي إحداث قطيعة مطلقة مع النظام القائم، ولكنها تدفع التحول باتجاه إمكانية تجاوزه بالتدريج وتشكيل منظومة حضارية تمثل تقدماً نوعياً وبديلا عقلانياً للعولمة الرأسمالية المتوحشة. وتتلخص نقاط الحوار العالمي الذي ذكره أمين فيما يلي :
- إشكالية السوق : فما هو موقف القوي الشعبية من تزايد الحملات اليمينية التي تدعو إلي مزيد من إطلاق حرية التحرك للشركات العملاقة ولاسيما بعد انهيار التجربة السوفيتية ؟ وهنا يؤكد سمير أمين علي ضرورة استمرار الحفاظ علي الدولة الوطنية باعتبارها الإطار المناسب لتنفيذ مشروعات ذات أهداف اجتماعية ونظام ضروري لتوظيف الجماهير الشعبية، وفي هذا الإطار لا ينكر أهمية البحث في سبل وبرامج اقتصادية مبتكرة وجديدة بخلاف التخطيط الذي أثبت فشله مع التجربة السوفيتية.
- إشكالية العولمة: أما مواجهة العولمة فتتطلب برنامجاً إصلاحياً علي صعيد عالمي، يتمحور حول تنظيم السوق العالمي بحيث توجه الاستثمارات نحو إنعاش حركة الاقتصاد في الشمال والجنوب علي السواء، وإعادة بناء نظام نقدي يضمن حداً من الاستقرار ليحل محل المضاربة القائمة، وتقنين المنافسة في الأسواق الدولية، وتكوين كتل إقليمية واسعة قادرة علي التحدي، وأخيراً مقرطة الحياة السياسية العالمية من خلال إصلاح مؤسسات المجتمع المدني
- إشكالية الديمقراطية: إذ تتوقف كل إمكانية لإحراز تقدم منشود علي تدعيم الديمقراطية في صالح الطبقات الشعبية في الأقطار الجنوبية علي وجه الخصوص، وفي العلاقات الدولية بصفة عامة، وذلك لأن غيابها كان له الدور الأكبر في توقف التنمية في العالم الثالث، ولكن في الوقت نفسه، ليس المطلوب هو الديمقراطية البرجوازية التي يتصور منظروها أنها نهاية التاريخ، بل يجب تطوير الديمقراطية وتدعيمها بما يسمح بتجاوزها المجال السياسي إلي مجالات اجتماعية مثل الحق في العمل والضمان الاجتماعي.
- إشكالية التعددية الثقافية والقومية: وتتمثل تلك الإشكالية الثقافية في أن التيارات الثقافية الحالية التي تحدث صداماً دائماً بين الاصالة والحداثة، وفي ذات الوقت تعمل علي صبغ الحداثة الغربية بألوان الاصالة كما نري في معظم البلدان العربية الإسلامية بما يفرز حالة تبعية للمنظومة الرأسمالية – هذه التيارات تمتنع دائماً عن الإجابة علي التحديات التي توجهنا في النقاط الثلاث السابقة – والمطلوب هنا أن التعددية الثقافية يجب أن تعمل علي إنجاز مشروع وطني ديمقراطي يحقق تقدماً اجتماعيا ويؤدي إلي دفع النضال الاجتماعي إلي الأمام وهي إشكالية تستوجب توظيف الديمقراطية هنا للتوفيق بين عنصر الاختلاف الثقافي الإثني من ناحية والتوحيد في مواجهة التراجع الاقتصادي من ناحية أخري.
بيد أن هذه النقاط المطروحة علي أجندة العقل المناهض للرأسمالية لن يتسنى له انجازعولمة اشتراكية متحضرة بديلة في زمن وجيز، فالطريق إليها سيكون طويلاً بالضرورة. ولا يسعى المؤلف في بناء اشتراكية جديدة إلي إلغاء كافة التجارب السابقة وخبراتها، علي العكس، ستجد بعض تلك التجارب مكاناً لها في المنظور الجديد المبتغي. ولكن هناك عدة نقاط هامة يجب أن توضع في الاعتبار في سياق حديثنا عن فكرة اشتراكية حداثية.
أ– إن النظرية التي تقول بإمكان تطور الاشتراكية داخل الرأسمالية كما فعلت الأخيرة داخل الإقطاعية ،هي نظرية يجب إدخال النسبية عليها بمعني أنها ليست حكماً أو قراراً مطلقاً ، فتبقي فرضا خاضعا للاختبار أو التعديل أو الحذف.
ب– إن جاز القول: بأن مرحلة الانتقال من الإقطاعية إلي الرأسمالية التي استغرقت ثلاثة قرون ( 15- 18 ) شهدت صراعات مريرة بين الطرفين حتى استقرت الرأسمالية. فيمكن أيضا التماثل في إمكان التعايش / التضاد بين الرأسمالية والاشتراكية لعقود أو قرون حتى يستقر الأمر للاشتراكية العالمية. وهنا بالتحديد نلتقي مع رأي لم يقل به ماركس، ويعني أيضا نظرياً إسقاط فكرة الثورة بمفهومها التقليدي.
جـ – أن الرأسمالية في تطورها المستمر تخلق في داخلها أيضا بصورة مستمرة قوي مناهضة لها، صاحبة مطالب دائمة مثل رفع الأجور وتحسين ظروف العمل والحفاظ علي البيئة ورفض التبعية.
د- يجب إعادة قراءة تاريخ الرأسمالية من جديد وفق رؤية مغايرة، من حيث أنه نظام يسعى إلي النمو والتطور في صراع مرير مع قواه المناهضة، وهذا الصراع يساهم في تفاقم هوة الأزمة الداخلية للنظام الرأسمالي، بما يعني أن العوامل الخارجية تلعب دوراً هاماً ونضالياً في تحجيم سطوتها. إن ما يناضل سمير أمين من أجله هو تحقيق اشتراكية جديدة متحررة من الاستلاب الاقتصادي والنظام الأبوي، وقادرة علي تطوير الديمقراطية والتحكم في العلاقة مع الطبيعة، وإقامة عولمة مؤسسة علي أساس لا يسمح بالاستقطاب. ولن يتم ذلك بدون النضال ضد مفهوم السوق الرأسمالي بحيث يمكن إخضاعه لفلسفة اجتماعية تؤمن بالتقدم وتعالج مشكلات البشر وتحقق المساواة. وإرغام النظام العالمي الحالي علي التكيف مع متطلبات التنمية، بمعني أن يعمل من أجل كل سكان الأرض. ثم أخيراً معاداة كل النزعات الثقافية والإثنية والقومية والشعوبية، والبحث في إنتاج ثقافة ذات معني كوني تتوافق مع الايدولوجيا المستمدة من الفكر الاشتراكي.