رؤى

وداعًا نوال السعداوي.. زهرة الصبار

سيدة تقف في الصفوف الأولي للنضال الوطني العربي والمصري..تختزل سنوات عمرها المديد في ثلاث كلمات ” الصدق- الشجاعة – الوعي ” .. واجهت كل صور الظلم والاستبداد والتخلف، ويخطيء من يصفها بأنها ناشطة نسوية، فدورها النضالي والمقاوم كان دائما في صف الحرية، حرية الوطن، حرية المرأة، حرية العقل في التفكير.. حرية الانسان في أي مكان من العالم بغض النظر عن جنسه أو ديانته..

ولدت نوال السعداوي في اكتوبر 1931، لأسرة متوسطة، وأب يعمل بالتربية والتعليم ولذلك حرص علي تعليم كل أولاده، وكانت نوال تعشق المعرفة والسؤال، فكثيرا ما كانت تدخل في مناقشات مع الوالد والأهل حول الأنثي والدين والله، وربما من تلك النشأة عشقت السؤال والبحث، فظلت تطرح الأسئلة طوال حياتها، لا تتوقف عن اعمال العقل والفكر والتأمل في كافة القضايا التي تحيط بها.

درست الطب، وتخرجت عام 1955،  ثم عملت طبيبة أمراض صدرية وطبيبة نفسية، وهي كاتبة وروائية مدافعة عن حقوق المرأة وحقوق الانسان، أسهمت في تأسيس جمعية تضامن المرأة العربية عام 1981، والمؤسسة العربية لحقوق الانسان، وحصلت علي العديد من الجوائز والدرجات الفخرية. عملت في مجالات عديدة،وأسست جميعيات نسائية.

كانت نوال تكرة  الظلم، بكافة أنواعه، تكره الاضطهاد، ولذلك رأت أن وضع المراة العربية مزرٍ للغاية، وكان عليها أن تقف بكل صلابة في مواجهة كل صور العدوان عليها سواء الجسدي أو النفسي أو الاجتماعي، ولأكثر من 75 سنة متصلة لم تخذل نوال نفسها ولا ضميرها في الوقوف بجانب المظلوم، ورغم ما تكبدته من مشاق وصعاب ومخاطر واتهامها في دينها وشرفها ووطنيتها، إلا أنها ظلت إمرأة تعرف ما ينبغي عمله، وما يميليه عليها ضميرها ووجدانها، واخلصت له ، ولم تخش أو تخاف من سيف البطش أو سلطان العامة من الناس..فواصلت طريقها، وشقت الصفوف لتعلن كلمتها وسط مناخ أبدا ما كان ليسمح لسيدة  بأن تنطق بمثل ما نطقت به نوال، فقد فتحت كافة الأبواب الموصدة ، وتحدثت في كل شيء بشكل علمي ومنهجي ورصين، لم تخجل ولم تتردد ولم يرهبها العدوان عليها، لذلك ستظل رائدة في وعيها وعلمها وثقافتها وجرأتها وشجاعتها ووضوحها واعتزازها بعقلها وجنسها بل وبكل تجارب حياتها الخاصة والعامة.

صدر لها ما يزيد عن أربعين كتابا، ترجم معظمها الي أكثر من 20 لغة في كل أنحاء العالم، من أهمها ” المرأة والجنس ” و ” المرأة والصراع النفسي ” و ” مذكرات طبيبة ” و ” مذكراتي في سجن النساء ” وكانت دائما ما تثير الجدل في مؤلفاتها، ومقالاتها وندواتها المختلفة في كل أنحاء العالم. وأيضا اصدرت اعمالا روائية أثارت الجدل العنيف حول حرية الابداع وحقوق المبدع، من أهمها ” الغائب ” ” امرأة عند نقطة الصفر” و” سقوط الامام” التي ترجمت الي اربعة عشر لغة   وكذلك  رواية ” الحب في زمن النفط “

نوال السعداوي قضايا المرأة والفكر والسياسة..  كانت  حياة نوال مغامرة مستدامة، وصراعا لم يهدأ، وجدلا لم يتوقف، وسجلت عبر مسيرتها تاريخا من الوعي المتحقق في ادارة الصراع مع الآخرين، ومع القيم، ومع العادات، ومع المفاهيم المغلوطة في الأديان، ومع النظرة الدونية للمرأة، ولها مواقف عديدة ومعارك متنوعة، بصورة مدهشة خاضتها جميعها بقلب صلب وارادة حديدية في ظل مجتمع يموج بتيارات التخلف والرجعية واهمها تعدد الزوجات والختان والحجاب، لذلك تعرضت للكثير من المشكلات في حياتها من أهمها أنها اعتقلت في عام 1981.

عاشت في خضم قضايا الوطن والأمة العربية وتشبعت بالروح الافريقية، فانتقدت المواقف الامريكية من القضية الفلسطينية،واعتبرتها تدفع باتجاه عدم نصرة الفلسطينيين، اصحاب الحق في الأرض المغتصبة. ووصفت الكيان الصهيوني بأنه الارهاب الحقيقي. وهاجمت الولايات المتحدة في محاضرة لها هناك عام 2002 واعتبرت ان احتلالها لافغانستان هدفه الحصول علي النفط.ورفضت مصطلح ” الشرق الأوسط” وأكدت علي عروبة المنطقة، وعلي الوعاء الثقافي العربي، معلنة أن هذا المصطلح إنما الهدف منه شمول الكيان الصهيوني أيضا. وعن افريقيا تحدثت بشجن وانتماء وقالت أن أول ما يربطها بأفريقيا هو لون بشرتها، وكم هي فخورة بهذا الأنتماء وطالبت في مقال لها بعد زيارتها لبعض البلدان الافريقية في 1977 بضرورة أن تعود مصر الي أفريقيا.

.. كانت نوال فدائية بمعني الكلمة، تواجه وتناقش، تختلف وتتفق، فجاء موقف الاسلاميين منها عدائيا بصورة متطرفة، عنيفا بصورة تدعو للفخر بها، تكفيريا بدرجة تجعلك لا تتصور مدي خوفهم من انسان  يستخدم عقله في البحث والمعرفة..كانت نوال حزبا بمفردها، جامعة ثقافية قادرة علي تحمل مسئولية تربية أجيال من البشر، كانت عظيمة في كل شيء، حتي في قدرتها علي الاعتراف بالخطأ، وبالضعف الانساني.

.. قاومت نوال كل صور الظلم البشع الذي تعرضت له؛ بالابتسامة، والروح العذبة، والتسامح، حتي عندما  أُقيمت ضدها  قضية الحسبة، وقضية اسقاط الجنسية، ظلت صامدة، تفكر وتكتب وتختلف حتي أخر لحظات عمرها..

.. تركت نوال بصمة كبيرة وقوية بوصفها واحدة من أهم الشخصيات في تاريخنا العربي الحديث، وربما لا أتجاسر إن قلت أنها من اهم النساء في تاريخنا الحديث..وقيمة نوال هنا في وضوحها الذي كثيرا ما كان ينقص المثقف العربي..

.. خالص العزاء لكل محبيها، وتلاميذها، ورفاقها في طريق الحرية، والعقل، والعدالة..خالص العزاء للوطن العربي الكبير، ولكل الناطقين باسم المساواة في هذا العالم.

د.محمد دوير

باحث في الفكر الفلسفي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock