اشتهر قيس “مجنون ليلى” بحبه لمعشوقته أكثر مما اشتهر بأشعاره، ربما لندرة هذا اللون من الحب وعمقه، وربما لقوة الفطرة لدى قيس التي جعلت حبه متدفقا على هذا النحو، وربما لبراعته في نظم الشعر بأبيات مؤثرة خلدت مشاعره.
هل يوجد حقا مثل هذا الحب حاليا؟ وهل يدوم؟
تأخذنا هيلين فيشر عالمة الأنثروبولوجي الأمريكية في كتابها الشيق “لماذا نحب؟” في رحلة عميقة لاكتشاف أعمق الأسرار البشرية، ماهو الحب؟ وما هي طبيعته وكيمياؤه؟ وتقدم لنا قراءة علمية وجدانية سيكولوجية لمدونة الحب البشري.
خلاصة النتائج التي توصلت إليها في بحثها مع مختلف الأجناس والأعمار كانت واحدة ومتماثلة تماما مع ما عبر عنه قيس منذ قرون حين أحب ليلى.
العدسة الوردية
الحب الرومانسي الاستحواذي له خصائص مميزة، الحبيب لا يصبح شخصا عاديا بل يكتسب معنى خاصا، فهو غير عادي منقطع النظير وكلي الأهمية، فأسير الحب يركز كل اهتمامه علي المحبوب، حتي لو أوقع الضرر بمن حوله وبنفسه، والمفتون يعظم كل سمات من يحب وإن كان يدرك جيدا عيوبه إلا إنه يتجاهلها تماما، إنها الحياة عبر منظار وردي، أو ما أسماه علماء النفس “تأثير العدسة الوردية”.
من الأعراض الرئيسية لهذه الحالة ما يمكن أن نطلق عليه “التفكير المقتحم”، قيس لم يكن يستطيع ببساطة أن يخرج خيال ليلى من رأسه، يعاني فقدان الشهية وانعدام النوم مع شعور بطاقة ايجابية عاتية بالرغم من ذلك، وحنين دائم إلى التوحد العاطفي، فكل محب هو مجنون بمحبوبه بدرجة ما.
رغم غزو الحداثة وانتشار الحب السائل الفارغ من المعني إلا أن الحب الحقيقي، حسب ما تصفه فيشر، لا يزال موجودا، وهو ما أثبته بحثها هذا الذي استغرق سنوات طويلة وشمل دولا متقدمة ونامية على حد سواء.
هل يدوم الحب؟
دعنا نفترض أن قيسا قد تزوج ليلى، هل كانا سينعمان بسحر الحب مدي الحياة؟ أم أن حبهما كان سيتبخر وتشكو ليلى من اليوم الذي تزوجت فيه قيسا؟ للأسف فإن الحب كما يأتي دون دعوة، فبوسعه أيضا أن يتبخر دون سابق إنذار، ربما تشكو ليلى، أو تكون فطرتها الأنثوية حساسة وتنجح في التكيف والتغلب علي ملل الاستقرار.
إلى أي مدى يستمر سحر الحب؟ لا أحد يعرف تحديدا، لكن فريقا من علماء الطب العصبي استنتجوا أن الحب الرومانتيكي يدوم علي نحو طبيعي بين 12 و18 شهرا بعد الزواج.
في حالة قيس، ربما كان محظوظا إذا ما تحول هذا السحر نفسه إلى مشاعر جديدة مختلفة وهادئة بعد الزواج، هي خليط من الأمن والراحة والهدوء والاتحاد مع شريك الحياة، أو ما أطلقت عليه الاخصائية النفسية إلىن هاتفيلد “الحب الرفاقي”، نسبة إلى الرفيق، مشاعر سعادة بالتكاتف والتواجد مع شخص آخر، هو ذلك الشخص الذي تشابكت حياته مع حياتك بعمق، واختلطت دماؤه بدمائك في الأبناء، إنه الترابط بعد الزواج والأسرة والإنجاب. التعبير القرآني المعجز حدد عناصر ثلاثة لهذه العلاقة، السكن والمودة والرحمة، تلك المشاعر المنسابة في هدوء وبلا ضجة في كل بيت مستقر.
في عصرنا هذا نجد كثيرا من النساء تحديدا لا يشعرن بالراحة بعد الزواج، وتمتلئ مواقع التواصل الاجتماعي بأسئلة من نوعية: زوجي لم يعد يحبني، صار أكثر انجذابا للنساء الأخريات وهذا يثيرغيرتي وإحساسي بالغبن، فقد أعطيته كل شئ وهو تقريبا لا يراني! هل استمر أمنحه كل شيء أم أكون حذرة متوجسة؟
عند قيس كثير مما يبقى غير قابل للفهم والتحليل والسيطرة، على عكس ليلى، هي بعد الزواج والإنجاب أمورها واضحة، تريد الاستقرار والنجاح لبيتها وحياتها، سقفا آمنا تربي أولادها تحته، وشريكا متعاونا مخلصا محبا، وهي بالغريزة الأنثوية أكثر استعدادا للتضحية والتكيف في سبيل ذلك مع الجوانب الأصعب في زوجها، سواء ما يتعلق منها بالاختلافات الطبيعية في الشخصية، أو الانهماك الزائد في العمل، أو التحيز المفرط لأهله.
خريطة الحب
أما عن اختيار شريك أو شريكة العمر، فمهما قيل عن الصفات الواجب توافرها فيمن يقع عليه الاختيار إلا أن الأهم هو تاريخنا الشخصي، تلك الخبرات التي لا تحصي في الطفولة والمراهقة وما بعدها التي شكلت وتعيد تشكيل ما نحبه وما لانحبه عبر حياتنا، كل هذا يتحد لتكوين خريطة نفسية لا شعورية واسعة، وهو ما يطلق عليه “خريطة الحب”.
خريطة الحب تلك تحدد اختياراتنا، تشمل سمات أبائنا وأمهاتنا النفسية، متى يميلون إلى الصمت، كيف يعبرون عن الحميمية أو الغضب، كيف يتعاملون مع النقود، كم الضحك علي مائدة العشاء، الجوانب الدينية والعقلية، أوقات التسلية، نظرتنا لقيم الشرف و العدل والإخلاص والتفاني، وأيضا تأثرنا بأساتذتنا أيام الدراسة، ما أعجبهم وما أسفوا عليه، ماذا كان يجذبنا في التليفزيون والأفلام والكتب.
كل هذه الأشياء والآلاف من العوامل المعقدة تبني اختياراتنا واهتماماتنا الفردية، فلا داعي للبحث عن التطابق بعد الزواج، علينا أن نتقبل شركاء الحياة بخرائطهم المختلفة كما هم، وهو ما يتطلب منا البعد عن الأنانية والامتلاء بالإخلاص والإصرار علي نجاح مشروعنا المشترك.
رائع جدا وشيق ومقنع ??