فن

وحيد حامد.. صياد الدراما الماهر

للدراما أهدافها الخاصة التي تبدأ بالمتعة والتسلية وتنتهي بالوصول لأكبر قاعدة من الجماهير، التى تقبل أو ترفض الابداع الفنى، وبين ثنايا تلك الحالة يصعب على الفنان أن يقدم مضمونا فكريا له رؤية عميقة، وقلائل من ينجحون في خوض غمار تلك التركيبة دون فشل. من بين تجارب مؤلفين كبار فى تاريخ الدراما المصرية تبرز تجربة الكاتب والسيناريست وحيد حامد، الذي استطاع أن يجمع بين الرؤية العميقة، وتحقيق المتعة الفنية، وإرضاء الجمهور في آن واحد.

نتيجة بحث الصور عن وحيد حامد

مشروع فنى

من بين أهم المشاريع الفنية لوحيد حامد نتوقف عند تجربته الدرامية الرائدة في الكتابة عن التيارات الإسلامية وظاهرة السيطرة الدينية على المجتمع المصري بشكل سياسي، حيث استطاع حامد أن يتناول الإسلاميين بمختلف تنويعاتهم في أعمال درامية رسمت خطاً عريضاً لمدي التشابه والخيط الذى يجمع بينهم. كما رصدت العديد من الظواهر المرتبطة بذلك، والتي طفت على سطح المجتمع المصري، ما بين دعاة جدد، وفنانات يعتزلن لارتداء الحجاب وممارسة الدعوة، وسلفيين خرجوا من أعماق الريف ليسيطروا على ثقافة المجتمع، وبين تيارات سياسية تتخذ من الإسلام مشروعا للسلطة، وفي القلب من ذلك جماعة الإخوان المسلمين، وصولاً لتناوله للتدين الظاهري الذي يتكسب به بعض المشاهير.

وعبر ذلك كله شيد وحيد حامد مشروعا فنيا حاول من خلاله تفسير وتحليل إحدى أهم القضايا التي تشغل المجتمع المصري، واحدى أزماته الاجتماعية والسياسية، وقدم رصدا فنيا وتحليلا عميقا لظواهر دينية كان لها تأثيرها على الخريطة الاجتماعية المصرية ليسبق بذلك الطرح جميع مجايليه من كُتاب وصُناع الدراما.

بعد الإنتهاء من حقبة السبعينات وعلى خلفية التغييرات السياسية والاقتصادية التي شهدها عهد السادات طرأت تحولات كبري في المجتمع المصري كان من ضمنها سفر كثير من المصريين للعمل بالخليج، خصوصاً من أبناء الصعيد والوجه البحرى  وسرعان ما عادوا لمصر بعد سنوات محملين بإرث ثقافي وافد، تمثلت فيه جُل الأفكار والعادات الوهابية التي امتزجت بتربة مصرية خصبة وُجدت في أولئك الذين سافروا من بيئات قروية محافظة. ونتيجة تلك الخلطة تغلغلت في الفكر الجمعي المصري أفكار دينية متشددة منها تحريم الفنون واحتقار المرأة وتوسع ظاهرة ارتداء الحجاب والنقاب.

طيور الظلام

وعلي صعيد آخر عاد الإخوان المسلمون للتواجد المعلن في العمل الخيري والجامعات والمساجد والنقابات،وأكمل مبارك مسيرة السادات بالسماح للإخوان بممارسة العمل السياسي أيضا، ومن خلال لعبة كر وفر تمكنت الجماعة من السيطرة على مفاصل نقابات مهنية مهمة واتحادات طلاب وجمعيات تحتك بالفقراء في كل نجع وقرية، مما سهل عليهم مهمة الوصول بمشروعهم السياسي الديني لعموم المصريين.. هنا كانت ثنائية نظام الحكم القائم بعد كامب ديفيد والممتد مع مبارك مع جماعة الإخوان وحرية عمل شيوخ السلفية أيضا.

ومن خلال حكم قائم علي الفساد والطغيان، وفزاعة تتغذي علي المظلومية استمر نظام مبارك فى شرعنة الإستبداد، واستمرت ظاهرة الإسلام السياسي بكل أنواعه فى كنف الدولة وبتأييد مجتمعي متنام للتعاطف مع ظواهر التشدد، وهذا ما رصده وحيد حامد بإبداع سلس وبسيط من خلال عدة أعمال عديدة.

 في مقدمة هذه الأعمال كان فيلمه المتفرد «طيور الظلام» الذي تناول لأول مرة لعبة المقامرة بين السلطة والإخوان كوجهين لعملة واحدة. ففي نفس دائرة الصراع علي الهيمنة يرسم الفيلم لوحة فنية لحالة الإنتهازية السياسية بمختلف الشعارات  بينما تظل النتيجة واحدة بين النظام والإخوان.

كشف المستور

ملف أمني كان مسكوتا عنه خاص حول تورط جهاز أمني في استغلال الدعارة للسيطرة علي شخصيات مهمة في مصر والخارج، ومن ثم استخدام ذلك أمنياً أو لوصول الدولة لمزيد من النفوذ. هذه القضية التي استخدمها السادات في صراعه مع ما سمي بمراكز القوى، وكانت مادة خصبة للنميمة، هي ما بنى وحيد حامد حبكة فيلم من أيقونات السينما الواقعية وهو «كشف المستور» للمخرج الراحل عاطف الطيب، ومن خلاله تطرقه لظاهرة إنتشار الدعوة الموجهة بأموال خارجية. فمن خلال ظاهرة اعتزال فنانات الإغراء وسيطرة الدعوة الدينية على طبقات جديدة لم يكن من المستساغ اتجاهها للتشدد، يحاول وحيد حامد تشريح ظاهرة سيطرة التيارات الدينية المدعومة بالمال الخليجي، على توجهات المجتمع المصري لأغراض مختلفة.

«العائلة» والحرب على «الجماعة»

ظلت الدراما التلفزيونية المصرية لزمن تتجول بين الكلاسيكية والقصص النمطية البعيدة عن الاحتكاك بالسياسة والدين من جانب نقدي، حتي ظهر مسلسل «العائلة» الذى كتبه وحيد واخرجه اسماعيل عبد الحافظ وقام ببطولته الفنان القدير محمود مرسى والنجمة ليلى علوى والفنان الكبير عبد المنعم مدبولى عام 1994، والذى أنتج في ظل صعود الجماعات التكفيرية التي تبنت الإرهاب داخل المجتمع، وفي ظل رعب مجتمعي وتصاعد لمنابر المتشددين، ليناقش ظاهرة استغلال الجماعات المتطرفة للفقر واستقطاب الفقراء. وكان هذا العمل امتدادا لمشروع فني مستلهم من رؤية سياسية اجتماعية امتلكها حامد منذ بداياته وتلك كانت نقلة سيتبعها مشاريع أكثر عمقاً وأشجع نقداً.

ثم جاء عام 2010 ليعرض لوحيد  حامد مسلسل «الجماعة» وبالتحديد في يناير أي قبل ثورة  25 يناير المجيدة بعام واحد فقط، والذي يتناول فيه تاريخ جماعة الاخوان مؤسسها حسن البنا بالتفصيل. وقد اخرج المسلسل محمد ياسين وقام ببطولته اياد نصار وحسن الرداد وسوسن بدر.

ثم قدم حامد الجزء الثاني من «الجماعة» في مايو 2017، بعد أن أدرك أن الجزء الاول لم يكن كافيا  للإلمام بكل جوانب وتفاصيل تاريخ الإخوان والذى ركز فيه على سيد قطب ودعوته للعنف والتكفير.

شكل ظهور الجزء الاول من «الجماعة» في ٢٠١٠ استشرافا فنيا نموذجيا لواقع مجتمعي يتجه نحو هاوية سيطرة الإخوان. حيث قدم توثيقا تاريخيا ورصدا لأصل ذلك التيار السياسي الذي هيمن على الشارع المصري عبر مراحل طويلة من العمل الديني بالمدارس والجامعات والمساجد والجمعيات. لكن حامد اختار التوجه لرأس ذلك التيار ورموزه منذ التأسيس وحتى ظهور دولة يوليو، ليحقق بعمل فني واحد ما عجزت مقالات وساسة ودراسات عن الكشف عن خطورته وأبعاده، ومن خلال تناول دقيق لحقيقة تلك الجماعة وتوجهاتها وطرق سيطرتها على الشارع. وفي الجزء الثاني من هذا المسلسل تصادم حامد مع أبرز قيادات الاخوان إثارة للجدل كمرجعية للعنف السياسي وتكفير المجتمع، من خلال تجسيد شخصية سيد قطب لأول مرة على الشاشة.

شيوخ الدعوة بالمال

هذا المصطلح سبق به وحيد حامد جيل ما بعد تجربة يناير وحكم الإخوان، حيث رأينا في شخصيات مهمة، ما رسمه وحيد حامد في سيناريوهات سابقة حتى كادت تلك الشخصيات تتطابق مع أعمال الدراما، فسبق الجميع بكشفه ظاهرة الدعاة الجدد وشيوخ السلفية. وهو ما جعل دراما حامد مرآة لواقع مجتمع تغولت وتغلغلت فيه تجارة الدين حتي أصبحت الأكثر رواجاً لصناعة أثرياء، وإنتاج حالة نفاق مجتمعي تتربح من خلال إضفاء مسحة تدين ظاهري لنيل القبول الاجتماعي.

ولعل مسلسل «بدون ذكر أسماء» قد قدم نموذجا فنيا رائعا في تجسيد الدعاة من خلال شخصية «معتمد» و«الشيخ شفيع» اللتين تناول حامد من خلالهما طرق خلق الدعاة ومواردهم المالية، وتكوينهم النفسي والاجتماعي.

ويظل حاضرا على الدوام فى هذه الرؤية السياسية في دراما وحيد حامد وكشفه لحقيقة وأطماع المتاجرين بالدين- ذلك الحس الفني الذي يسيطر علي أجواء دراما جيدة الصنعة، تقدم بشرا من لحم ودم، ليؤثروا في المشاهد الذي يجد نفسه أمام أعمال فنية ممتعة وسلسة الاستيعاب، وفي الوقت نفسه محملة برؤية سياسية اجتماعية مهمة وجريئة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock