تناول موضوعات معينة – مثل الهولوكوست والعبودية – مهمة ثقيلة حتى على الفئة الأكثر طموحا من الروائيين، لكن طموح الروائية الكندية إيسي إيديوجيان عادة ما يتجاوز المألوف.
ارتكزت رواية إيديوجيان السابقة، Half Blood Blues، التي نشرت في عام 2011، على شخصية عازف الموسيقى الأسود الذي تعرض للسجن في معسكر اعتقال ساكسنهاوزن النازي. أما رواية Washington Black التي نشرت هذا العام، وترشحت لجائزة Man Booker، فيرويها واشنطن بلاك، بطل الرواية، الذي انتقل من أغلال العبودية في إحدى مزارع مستعمرة باربادوس إلى آفاق العلوم والفنون والحرية.
يسبر كثير من الكُتاب ومخرجي الأفلام أغوار قضية العبودية، ويحاول كل منهم أن يشق طريقه المتفرد بين ركام الخيارات الأخلاقية. من وسط هذا الركام اختارت إيديوجيان أن تسلط الضوء على الملحمة التي خاضها ضحايا العبودية من أجل – ليس التحرر فحسب – وإنما الاحتفاظ بإنسانيتهم والتمسك بها في مواجهة ضراوة العبودية ولاإنسانيتها.
على سبيل المثال، تتعرض العجوز، بيج كيت – التي تمثل رمز الأمومة بين المستعبدين في باربادوس – إلى أسوأ أنواع الوحشية؛ برغم ذلك، لا تألو جهدا في حماية الطفل الصغير بلاك ورعايته.
وبعد انفصالهما بسبب رغبة سيدهما في انتقال بلاك للعمل في مزرعة أخرى يشاهدها بلاك تحتضن صبيا آخر، وتوفر له القدر نفسه من الحماية والرعاية: “كم كانت تجزع من أجله، وتبذل الوقت والجهد الخائرين في مراقبته. أدركتُ بالغريزة معنى ذلك؛ إنه الحب الكبير الغاضب الذي يعتمل بداخلها”.
لا يعني هذا أن المجتمع الأسود كان قادرا على تجاوز آثار الوحشية، أو أنها لم تؤثر فيه ابتداء؛ فبلاك – الذي خرج للعمل منذ نعومة أظفاره – يقع ضحية لوحشية بني جلدته: “بصقت فتاتان صغيرتان على وجهي، وطرحتني جدتهما العجوز أرضا، ثم مزقت حذائي لمجرد أن تظفر بالجلد”.
في وقت لاحق، يشاهد بلاك المشرف وهو يقوم بقطع رأس جثة أحد العبيد، كما يتذكر فجأة تعرضه للضرب المبرح من بيج كيت مما أدى إلى تكسر أضلعه.
إيسي إيديوجيان
تستدعي هذه الأحداث في ذاكرة بلاك مصير العبيد الهاربين، الذين كانوا يوضعون أمام أعين الناس في المدينة في صناديق خشبية كبيرة، والأطفال الرضع الذين كانوا يؤتى بهم إلى الحقول مع أمهاتهم، ويتركون بها حتى الموت.
لم تكن كل هذه المشاهد سوى تمهيد للتشوهات المروعة التي سيتعرض لها بلاك جراء إصابته بحروق بالغة، ولحالة الهلع التي ستلم به عندما يرى رجلا أبيض يقتل نفسه أمام عينيه. يقص علينا بلاك هذه الأحداث بتؤدة ومهل حتى أنه يقف على تفاصيل كل لحظة فيها.
يستخدم بلاك ضمير المتكلم في روايته للأحداث، فنشعر بصوته المتضجر وعاطفته المتأججة، لكنه يتجاوز سريعا هذه المرحلة عندما يتم اختياره من قبل أحد المستكشفين البيض (يُدعى تيتش، وهو شقيق سيده) للعمل كمساعد له.
في هذه المرحلة يصبح صوت بلاك أكثر هدوءا وعقلانية، وتقوده خبراته الجديدة، لا سيما خبرة الانعتاق من غل العبودية، إلى إعادة تأطير خبراته القديمة.
مع توالي الأحداث يكتشف بلاك الفنان الكامن بداخله، ويعكف على استلهام الرسومات العلمية، التي يساعده تيتش على استكناهها، ليتحول إلى رسام مبدع.
في البداية، يمارس بلاك موهبته سرا، لكن تيتش لا يتمالك نفسه عندما تقع عيناه على لوحاته للمرة الأولى، فيؤكد له “أنت معجزة بكل المقاييس”، وفي اليوم التالي يخبره “من الآن فصاعدا ستكون الرسام الأول في فريق العمل”.
من الصعب رسم لوحة تجسد ملامح العبقرية، لكن رواية Washington Black لا تمثل المحاولة الأولى التي تخوضها إيديوجيان لخوض غمار هذا التحدي؛ إذ كانت صورة الموسيقي الموهوب أعظم إنجازاتها على الإطلاق في رواية Half Blood Blues. وبطريقة ما في روايتها الجديدة تتمكن إيديوجيان من تجسيد موهبة بلاك الفنية الرائعة عبر لوحة فنية أكثر روعة.
تأخذ الرواية شكلا أقرب إلى كتابات الأساطير والمغامرة بمجرد أن يبدأ تيتش وبلاك رحلتهما خارج عالم باربادوس الدامي. فالرفيقان يغادران الجزيرة على متن منطاد في ليلة عاصفة، ويهبطان على متن سفينة بمساعدة أخوين توأمين، ويصلان إلى فرجينيا، حيث يبدأ بلاك خوض غمار مغامرات تأخذه من القطب الشمالي الكندي إلى شمال أفريقيا عبر لندن وأمستردام.
تستمر أجواء الأساطير والخيالات مع تطور الأحداث، فالشخصيات التي كان يُظن أنها ماتت تعاود الظهور، والرجل الذي كان قد أُرسل لقتل بلاك يُردى قتيلا أمام عينيه، وتخيم على الرواية بوجه عام أجواء الحكايات الخيالية وقصص الأشباح.
في هذه الأجواء تعاود إيديوجيان، مرة تلو الأخرى، استكناه الحياة الباطنية لبلاك، كعبد وكحر، كشخص مهمش في عالم مثقل بالعنصرية، وكفنان موهوب وعالم عبقري تنتزع قدراته الإكبار والتقدير من النخبة البيضاء نفسها، وتستنطق آثار العبودية، ليس فقط على المستعبدين وحدهم، وإنما على الأسياد البيض أيضا.
في عالم باربادوس، تستجلي إيديوجيان ببراعة فائقة كيف شرعن البيض الوحشية والاستعباد، وفي عالم ما بعد باربادوس، تستكشف الكاتبة، ببراعة فائقة أيضا، كيف يظل من يتقمصون دور المخلص متورطين في أعمال لا تمت إلى الإنسانية بصلة.
لا تختلف الرحلة التي تصحبنا فيه إيسي إيديوجيان كثيرا عن رحلة بلاك وتيتش في المنطاد؛ فالرواية تموج بنا بين رؤى مختلفة لعالم شديد التعقيد. وعلى غرار راكبي المنطاد، يجتاحنا شعور خفي – من وقت لآخر – بأنها تجنح بنا عن مسار ما كنا نظنه ثوابت ومسلمات.