رؤى

روسيا لن تدع أوكرانيا تمر دون قتال (2)

عرض وترجمة: أحمد بركات

يمثل موقف روسيا الداخلي والتطورات الجيوسياسية الأوسع نطاقا مرتكزا مهما في الدفع بموسكو إلى التخلي عن الدبلوماسية، واستخدام القوة بدلا عنها كحل لحسم الصراع في القضية الأوكرانية. 

فنظام الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” يبدو في أمان في ظل سياسات القبضة الحديدية التي يقمع بها المعارضة. كما أنَّ موسكو قد أعادت بناء وضعها المالي منذ بدء العقوبات الغربية في 2014، وباتت تمتلك الآن حوالي 620 مليار دولار في شكل احتياطيات نقدية بالعملة الأجنبية. 

إضافة إلى ذلك، ربما تمتلك روسيا أيضا نفوذا كبيرا على أوربا هذا العام بسبب ارتفاع أسعار الغاز ونقص إمدادات الطاقة. في الوقت نفسه، تعاني أوروبا من حالة من عدم الثقة بعد الانسحاب الفوضوي من أفغانستان، ولا تزال تعاني من أجل تحديد هدف “الحكم الذاتي الاستراتيجي”.

خروج الجيش الأمريكي من أفغانستان
خروج الجيش الأمريكي من أفغانستان

وعلى الجانب الآخر، يَنْصَبُّ اهتمام إدارة الرئيس الأميركي “جو بايدن” على الصين، ما يشير إلى وجود روسيا في موضع متأخر في أجندته، وعدم تموضع أوروبا على رأس أولوياته السياسية. ومن ثم، فإنَّ أوكرانيا لا تحظى سوى بأهمية ثانوية على مسرح ثانوي.

ومن ثم، فقد استخدمت القيادة الروسية، على مدى العام الماضي، خطابا فجا للفت الانتباه إلى “خطوطها الحمراء” في أوكرانيا، إذ لا تعتقد موسكو، حتى الآن، على أقل تقدير، أنَّ الولايات المتحدة تحمل القضية الأوكرانية على محمل الجد. 

ففي أكتوبر 2021، أشار “بوتين” إلى أنَّه برغم أنَّ أوكرانيا قد لا تحصل على عضوية حلف شمال الأطلسي بشكل رسمي، إلا أنَّ جيشها يشهد عملية تطوير عسكري “تجري على قدم وساق” لافتا إلى أنَّ “هذا يفرض تهديدا حقيقيا على روسيا”. 

ومن المشكوك فيه أن يكون هذا الخطاب مجرد كلمات جوفاء. فالقيادة الروسية لا ترى أفقا فسيحا للحل الدبلوماسي، وتعتقد أنَّ أوكرانيا تنزلق من بيد يديها إلى الفلك الأمني الأميركي. وربما لهذا السبب ترى أنَّ الحرب أمرٌ محتومٌ أكثر من أن تكون خيارا مطروحا.

ربما لا يعتقد القادة الروس أنَّ استخدام القوة سيكون سهلا؛ أو أنَّه سيمر من دون تكلفة، إلا أنَّهم، في الوقت نفسه، يعون تماما أنَّ الأوكرانيين يسيرون حثيثا على الطريق الخطأ بالنسبة إليهم، وأنَّه لم يعد أمامهم سوى خيارات محدودة لإنقاذ سياساتهم الموضوعة مسبقا. وربما خلصوا أيضا إلى أنَّ اللجوء إلى الخيارات العسكرية سيكون أقل تكلفة الآن مما سيكون عليه في المستقبل.

وإذا كانت روسيا حققت نصرا من نوع خاص خلال هجومها العسكري في 2014 ـ 2015 على أوكرانيا، تجلَّى في فرض اتفاقات وقف إطلاق نار كانت مرفوضة من قبل كييف، وإذا كان الجيش الأوكراني قد شهد تطورا هائلا في أعقاب هذه الاتفاقيات، مثلما شهد الجيش الروسي تطورات مشابهة، ما أبقى هامش التفوق الكمي والنوعي لصالح روسيا كبيرا، إلا أنَّ النجاح الروسي في ميدان المعركة لم يُترجم إلى نجاح دبلوماسي سواء في عام 2014، أو بعده، حيث أثبتت الاتفاقية التي تمخضت عنها الحرب، والتي حملت اسم “بروتوكول مينسك”، نسبة للعاصمة البيلاروسية التي جرت فيها المفاوضات، أنَّها اتفاقية خاسرة لجميع الأطراف، إذ لم تستعد أوكرانيا بمقتضاها سيادتها على أراضيها، وفشلت الولايات المتحدة والحلفاء الأوربيون، الذين تجنبوا تصعيدا محتملا للصراع مع قوة نووية، في إجبار روسيا على الانسحاب عن طريق العقوبات، كما تراجع النفوذ الروسي على أوكرانيا ـ بغض النظر عن الأراضي التي قامت بضمها أو عزوها ـ منذ عام 2015 على نحو مطرد.

ووقعت أوكرانيا اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوربي في عام 2014، أخضعتها للوائح التنظيمية الأوربية، فيما يمثل النتيجة التي حاولت موسكو مرارا تجنبها. كما واصلت كييف ضغوطها للحصول على عضوية حلف شمال الأطلسي. وبرغم أنَّها لا تمتلك فرصة مواتية للانضمام قريبا إلى هذا الحلف، إلا أنَّ علاقاتها الدفاعية بدُوَلِه قد تعمقت بدرجة كبيرة. 

وبرغم محاولة “زيلنسكي” التمسك بالمسار التفاوضي والانخراط الدبلوماسي مع موسكو بعد توليه سدة الحكم في بلاده، إلا أنَّه تَنَكَّبَ هذا المسار خلال عام 2020، حيث قام بإغلاق محطات تليفزيونية موالية لروسيا، وتبنَّى موقفا متشددا من المطالب الروسية. 

كما وضعت إدارة “زيلينسكي” أوكرانيا على الطريق إلى “التكامل الأورو أطلسي” ـ وهي العبارة التي يُلِحُّ الدبلوماسيون الأميركيون في استخدامها لوصف التوجه الاستراتيجي الأوكراني ـ ما سيأخذها صوبَ الغرب وبعيدا عن موسكو.

وبرغم تراجع حِدَّة القتال في شرق أوكرانيا بعد عام 2016، إلا أنَّ الصراع المحتدم أخفى وراءه حالة عدم الاستقرار على الجانب الأوربي. فروسيا والولايات المتحدة، اللتان يتداخل نفوذهما في أوربا الشرقية، يقفان موقف الخصومة فيما تطلق عليه واشنطن “التنافس الاستراتيجي”. ومع ذلك، فإنَّه منذ عام 2014، تبقى الفجوة بين الخطاب الأميركي من جانب والعمل الأميركي من جانب آخر في أوكرانيا وغيرها مفتوحة على مصراعيها للاستغلال. 

فلاديمير زيلينسكي
فلاديمير زيلينسكي

وفي سياق مواز، كشف الصراع الروسي خللا بيِّنا فيما يتعلق بالتصميم الأميركي تجاه الهدف المعلن، وهو “يجب أن يرحل الأسد”، حيث لم تدفع واشنطن ضد الوجود العسكري الروسي، ما سمح لموسكو بمد نفوذها في جميع أنحاء الشرق الأوسط. 

وكشف الانسحاب الفوضوي للولايات المتحدة من أفغانستان، والزوبعة التي أثارتها صفقة الأوكوس (الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا)، والتي أثارت غضب فرنسا، عن مشكلات هيكلية في التنسيق داخل التحالف عبر الأطلسي. كما تبدو واشنطن مرهقة من الحروب، وعلى الأرجح سيجعل هذا القادة الروس يتشككون كثيرا فيما إذا كانت التأكيدات الأميركية بشأن المساندة السياسية لأوكرانيا تحمل أي قدر من الصدقية والموثوقية.

وإذا كان بوتين يقيم الدعم الرسمي الأميركي لوحدة الأراضي الأوكرانية على أنَّه غير صادق (ليس هناك الكثير مما يوحي بغير ذلك في واقع الأمر) فإنَّه –من ثم– لن يجد ما يردعه عن تغيير توازنات القوى في المنطقة عبر استخدام القوة. 

ربما يبدو من الحماقة أن يقدم “بوتين” على محاولة غزو بلد بحجم أوكرانيا بكاملها، حيث يعيش أكثر من 40 مليون نسمة، إلا أنَّه في الوقت نفسه، يبدو من العبث أن يحاول تقسيمها، أو أن يفرض تسوية جديدة تسعى إلى تغيير مسار تحول كييف إلى “التكامل الأورو أطلسي” والتعاون الأمني مع الولايات المتحدة. 

(يُتبع)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock