منوعات

ستيوارت هول .. الثقافة عندما تساعدنا في اختيار هوياتنا

في صيف عام 1983، سافر المفكر الجاميكي الأصل، ستيوارت هول، الذي ترعرع ودرس في إنجلترا، إلى جامعة إلينوي الأمريكية لإلقاء سلسلة محاضرات في “الدراسات الثقافية”. في هذا الوقت كان كثير من الأكاديميين لا يزالون ينظرون بدونية إلى دراسة الثقافات الشعبية؛ ما خلق هوة عميقة بين ما أسماه هول الذوق “المتعمد والموثق” للطبقات العليا، والثقافة الجماهيرية غير المنقحة.

اعتبر هول أن الثقافة ليست قاصرة على الموسيقى الكلاسيكية والفنون الجميلة، كما تتوهم النخب المثقفة، وأننا لا يمكن أن ندرك الصورة الحقيقية والكاملة للعالم بالاعتماد على الدراسات التقليدية وحدها، مثل الدراسات السياسية والاقتصادية. لاقت محاضرات هول أصداء إيجابية لدى شباب الباحثين الذين ضجت بهم قاعات الدرس في جامعة إلينوي، إضافة إلى مجموعة من المفكرين والكُتاب الذين تجمعوا في أحد المنتديات الصيفية لبحث المنهجيات الماركسية في التحليل الثقافي.

وإزاء شعورها بأنها تشاهد عملا جديدا، آلت جينيفر داريل سلاك – إحدى الباحثات الشابات – على نفسها تسجيل وكتابة هذه المحاضرات. وبعد عقد كامل من المحاولات المضنية لإقناعه، وافق هول على تحرير هذه المحاضرات تمهيدا لنشرها، ما حدث فعليا لأول مرة في نهاية عام 2016 (بعد موت هول بأكثر من سنتين)، عندما خرج إلى النور كتاب Cultural Studies 1983: A Theoretical History (دراسات ثقافية 1983: تاريخ نظري) كجزء من سلسلة اضطلعت “مطابع جامعة ديوك” بنشرها تحت عنوان Stuart Hall: Selected Writings (ستيوارت هول: كتابات مختارة)، لتأريخ أعمال هول، وتوثيق دوره الرائد في هذا المجال.

بوجه عام، لا تمثل الدراسات الثقافية مبحثا مستقلا من مباحث العلوم الإنسانية، بقدر ما تسعى إلى الاستفادة من هذه المباحث جميعا. وقد ظهرت هذه الدراسات – أول ما ظهرت – في إنجلترا، في منتصف خمسينيات القرن الماضي، عندما شرع باحثون ينتمون إلى الطبقة العمالية، من أمثال ريتشارد هوجارت ورايموند ويليامز، في بحث الفجوة التي تفصل بين الأعمال الثقافية المعيارية، المتمثلة في الموسيقى أو الكُتب التي يفترض أنها تعلم الإتيكيت والتمدن، وبين نشأتهم. اعتقد هؤلاء الباحثون أن تطور وسائل الاتصال الجماهيري والأنماط الشعبية تقود بقوة إلى تغيير جذري في علاقتنا بالسلطة، وفي علاقتنا ببعضنا البعض، وأنه لم يعد ثمة ما يسمى بالتوافق العام أو الإجماع.

من ناحيته، كان هول مهتما بأوقات الزخم التغييري؛ فالثقافة بالنسبة إليه لا تعدو أن تكون محاولة لفهم حركة هذه التغيرات وتوقع مآلاتها. كان هول يؤمن أيضا بأن الثقافة في المجتمعات الحرة لا تستجيب للإملاءات المركزية الحكومية، لكنها – رغم ذلك – تجسد شعورا لا واعيا بالقيم المشتركة التي تميز بين الحق والباطل، وبين الغث والثمين. وعلى مدار عمله الفكري، أولى هول اهتماما خاصا بما يُعرف بنظريات “الاستقبال” (أي كيف تساعدنا الثقافة على اختيار هوياتنا).

في هذا السياق، لم يقف اهتمام هول عند حدود تفسير الأشكال الثقافية الجديدة، مثل السينما أو التليفزيون، باستخدام الأدوات التي كان الباحثون في السابق يستخدمونها في مجال الأدب، وإنما كان معنيا بفهم القوى السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تتلاقى في هذه الوسائل. ولم يعد الأمر النسبة إليه مقصورا فقط على محتوى أو لغة الأخبار المسائية، أو المجلات الثقافية متوسطة المستوى، التي كانت تخبرنا بما يجب علينا التفكير فيه، وإنما أصبح من الضروري الالتفات إلى كيفية تنظيمها وتعبئتها وتوزيعها.

وعلى الرغم من نزوع كثير من الباحثين إلى التشكيك في حقيقة أن الروح التي أزكت الدراسات الثقافية في إنجلترا كانت تسري بالأساس في الولايات المتحدة الأمريكية منذ خمسينيات وستينيات القرن الماضي عبر محتوى المجلات غير الرسمية والصحف البديلة، إلا أن هول وجد ضالته في العثور على طلاب مؤهلين لتأسيس مبحث الدراسات الثقافية في الجامعات الأمريكية. لقد منح الوله الأمريكي بالمجتمع اللاطبقي الثقافة معنى مختلفا يفوق ما كانت تنطوي عليه في إنجلترا، التي كانت المسارات الاجتماعية فيها محددة بصورة أكثر صرامة.

هول، ومن على شاكلته من المهتمين بالمبحث الثقافي، كانوا معنين بالأساس بما يُعرف بـ ’المرحلة الأمريكية‘ من الحياة البريطانية، التي تغيرت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، حيث لم تعد إنجلترا تمثل ’الحالة النماذجية‘ للمجتمع الصناعي الغربي. في هذه الأثناء توغلت وسائل الإعلام الجماهيرية وثقافة الاستهلاك بصورة كبيرة في الجسد الأمريكي، وتحولت الولايات المتحدة الأمريكية عبر تجربة فريدة إلى إرهاصا لما كان على وشك البدء. ففي بلد تتوافر فيه إمكانية الانتقال السريع من الفقر المدقع إلى الثراء الفاحش، تصبح الثقافة مختصة بالأساس بما تريد إضافته إلى العالم سواء كنت تواجهه من موقع النخبة أو من موقع الجماهير.

*هذه المادة مترجمة

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

Related Articles

Back to top button

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker