«مكان وسط الزحام» هو عنوان السيرة الذاتية التي صدرت مؤخرا عن الدار المصرية اللبنانية للكاتب والروائي عمار على حسن، وعلى الرغم من وجود دال للمكان في عنوان هذه السيرة نستطيع أن نقول إن الحدث السردي هو المقدم على غيره من عناصر البناء الفني الأخرى، وهذا يعني أن المكان هنا بمعناه المجازي الذي يوحي بالمكانة والتميز والتفرد، وهو بالفعل ما تؤكده هذه السيرة على مدار صفحاتها (358 صفحة).
السيرة تحكي رحلة بحث – عبر المكان والزمان – عن المكانة الأدبية والثقافية فى مواجهة صعوبات بالغة القسوة، ما يجعل هذا العمل متجاوزا لفكرة المتعة السردية وإشباع فضول القارىء لمعرفة حياة الكاتب إلى تحقيق الفائدة بتقديم نموذج حي للشباب في التغلب على عوامل الإحباط واليأس.
لاشك أن هذا تحديدا ما جعل “الأيام” لطه حسين مثالا ملهما يستحضره الوعي الجمعي في حالات التحدي وتأكيد إرادة النجاح والتفوق، وكأن عمار علي حسن يستهدي بمقولة ابن عربى “المكان الذى لايصير مكانة لايعول عليه” في سرده لأحداث حياته منذ سنوات الطفولة المبكرة التي ارتبطت بحبه لطلب العلم، الأمر الذي دفعه إلى الذهاب للمدرسة قبل أن يبلغ سن الالتحاق القانوني وماترتب على ذلك من طرد من الفصل حتى تقبل مدير المدرسة وجوده دون قيد بعد تدخل أحد أعضاء الاتحاد الاشتراكي، ما جعل كاتبنا يشعر بالغربة في المكان ليتأخر ظهور نجابته حتى الصف الرابع حين وجد نفسه يتفوق بلا حدود وينتقل من مستوى الطالب المتوسط أو ما هو أقل منه إلى المركز الأول على الصف الدراسي.
الحقيقة أننا أمام نوعين من السرد، يدور الأول منهما – وهو المتن الأساسي – حول سيرة الكاتب، بينما يدور الثاني حول مايمكن أن نسميه بـ”السيرة الجمعية” لمجتمع القرية التي كانت مقسومة إلى نصفين يفصل بينهما نحو ثلاثة كيلو مترات وكثيرا ما كانت تقع بينهما خلافات وتطور الخلاف ذات مرة إلى معارك أسماها الكاتب ساخرا “حرب الكوريتين”.
يضاف إلى هذين النوعين من السرد نمط ثالث يمكن أن نطلق عليه السرد “الموضوعاتي” حيث يجمع الكاتب فيه كل ما يخص موضوعا معينا، كالموت مثلا، ويسرده في موضع واحد من السيرة بغض النظر عن التباعد الزمني بين الأحداث، وهو لا يسرد مثل هذه الموضوعات بغرض الحكي فحسب بل من أجل تأملها واستخلاص العبرة منها.
يقول الكاتب مثلا “علمتني تجارب الموت التي عشتها ورأيتها أيام طفولتي وصباي كيف أنظر إلى الدنيا باستهانة فلا أتركها تنيخ على رأسي فأمشي بطيئا في انحناء، بل أنظر إليها من عل كطائر يحلق في الأقاصي وأقول لها “غري غيري” وإن كنت لا أنسى طيلة الوقت أنها الفرصة التي سنحت لي كي أترك على الأرض علامة” ( ص134). كأن تجارب الموت هنا شبيهة بقناة النار التي تطهرت فيها الذات فأصبحت قادرة على اكتشاف حقيقة الحياة وهوانها، لكن ذلك لايعني اعتزالها وإهمالها بل تعميرها وترك علامة فيها تدل على دور صاحبها.
الكاتب هنا يتمثل ميراثا إسلاميا واسعا يعد بمثابة البنية العميقة التي توجه الوعي والسلوك، ففي الحديث الشريف نقرأ “إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن يغرسها فليغرسها”. هذا الوسط الذهبي – بتعبيرات أرسطو – بين التهافت على الدنيا والإدبار عنها نجده بوصفه ميراثا ثقافيا ووجدانيا عاما ويمكن أن نتمثله أيضا في قول العقاد “راهب الشرق نعى الدنيا وصام / أنا أنعاها ولكن لا أصوم، عاشق الغرب رعى الدنيا وهام / أنا أرعاها ولكن لا أهيم”. عمار علي حسن هو ابن هذا الميراث الحضاري الذي يميز الشخصية العربية على وجه الإجمال.
تظل تيمة الفقر من التيمات الموضوعية كثيرة التردد في هذه السيرة، وهي لا تقتصر على أسرة السارد التي افتقرت بعد غنى بل شملت أغلب أسر القرية، يتذكر السارد أنه سمع امرأة من أهل قريته تقول لابنها الذي تكاسل عن الذهاب إلى المدرسة: “البيت على الحديدة اذهب إلى المدرسة على الأقل ستجد ماتأكله هناك”، ويصف السارد أباه بأنه “رجل بسيط يرضى من الحياة بأقل ماتجود به ويكون غاية في الرضا والسعادة إن وجد قوت يومه” (ص23). ولاشك أن هذه الروح الطيبة القنوعة تسربت إلى كاتبنا وأصبحت جزءا من طبيعته وجعلته – مثل أبيه – يواجه شظف الحياة بشرف العمل، ففي طفولته وصباه كان ذراع أبيه في الحقول ويا له من عمل كان هذا الصبي الصغير يقوم له فجرا أو في منتصف الليالى الباردة يسقي الزرع ويجري من هنا إلى هناك لكي يتحكم فى مجرى المياه.
مع الوقت تكفل الصبي الصغير بجزء من نفقاته من خلال العمل أجيرا في الحقول وفي بنايات المدن التي تعلو طوابقها فوق أكتاف أمثاله من الفقراء الذين لايملكون إلا قوة عملهم، ولاشك أن كل هذا قد جعله قوي الإيمان بقيمة العدل وضرورة تحقيقه بين أفراد المجتمع وهو إيمان اكتسبه من خبرة الحياة ثم من خلال القراءة والوعى بعد ذلك.
يقول عمار في سيرته: “لم يقتصر عملي على الحقول فقد صرت منذ أن وصلت إلى الصف الثالث الإعدادي عامل تراحيل أذهب مع شباب من أهل قريتي إلى بورسعيد والإسماعيلية ومرسى مطروح والقاهرة لنعمل في المعمار”.
ولا ينبغي أن نفهم مما سبق أن حياة كاتبنا كانت عملا شاقا متصلا، فقد تعلم مثلا لعبة الدومينو و كرة القدم ومارسهما لكنه على عادته في تأمل كل شيء تعلم من اللعبة الأولى “أن الحظ يحتاج إلى إدارة واعية” ومن الثانية “أن بذل الجهد الفائق وارتفاع الروح المعنوية المستمر والإخلاص في الأداء بوسعه أن يغلب أي موهبة متكاسلة أو متعالية مغرورة”، وهكذا تحول الجد واللعب إلى دروس مستفادة جعلت من صاحبنا أحد الأسماء اللامعة فى عالم الكتابة التي كانت – ولا تزال – هدفه الرئيسي، ضحى بسببها بوظيفته المرموقة وإغراءات العمل في الجامعة وعمله المربح فى الإمارات والمناصب الوزارية التي عرضت عليه، محققا نبوءة جده لأمه التي كان يقولها لمن يسخر من سذاجة الصبي وعثرة لسانه: “بكرة تشوفوه رجلا محترما”، وأخذ الحفيد تلك النبوءة بالجدية الواجبة حتى أصبحت حقيقة يراها الجميع.
الإيمان بالثقافة ودورها إحدى غايات عمار علي حسن، دون أن يقيد نفسه فى أيديولوجيا محددة مستبدلا بها ما أسماه بمنظومة القيم الإنسانية التي تتعانق فيها الحرية مع العدل والمساواة.
تحوي هذه السيرة أيضا العديد من القضايا مثل تزوير طباعة الكتب وأسلوب التعليم وطقوس الكتابة واكتشاف كاتبنا لواقعيتنا السحرية وكيفية كتابته للأبحاث الفكرية وتفعيل قيمة المحبة فيما يمارسه من كتابة نقدية للأعمال الروائية والشعرية، لتبدو سيرة غاية في الثراء والمتعة والفائدة، تحوي من القضايا والأفكار الهامة ما يجعلها عملا ملهما للأجيال القادمة.