“في إطار من السرية، قامت إسرائيل على مدى السنوات الأخيرة بتسليح وتمويل ما لا يقل عن 12 من الجماعات والفصائل المتمردة في جنوب سوريا، بهدف المساعدة في منع مقاتلي جماعات مدعومة إيرانيا، وكذلك عناصر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، من احتلال مواقع بالقرب من الحدود الإسرائيلية، وفقا لما أدلى به أكثر من 20 من قادة ومقاتلي هذه المجموعات.
وكشفت مجلة Foreign Policy الأمريكية في تقرير أخير لها بعنوان Inside Israel’s Secret Program to Back Syrian Rebels، تفاصيل غير مسبوقة عن ماهية دعم إسرائيل السري للفصائل المقاتلة في سوريا نقلا عن مقابلات مع قادة هذه الفصائل أجرتها إليزابيث تسوركوف، الباحث الزميل في “منتدى التفكير الإقليمي”، أحد المراكز البحثية الإسرائيلية، اعترفوا خلالها أن الإمدادات العسكرية الإسرائيلية للفصائل التي ينتمون إليها شملت بنادق اقتحام ومدافع رشاشة وقاذفات هاون وعربات نقل، قبل أن تقرر إسرائيل وقفها اعتبارا من منتصف العام الجاري.
إليزابيث تسوركوف
وذكر التقرير أن أجهزة الأمن الإسرائيلية قامت بتسليم الأسلحة عبر ثلاث معابر تربط الجولان المحتلة مع سوريا، وهي المعابر ذاتها التي استخدمتها إسرائيل لتسليم المعونات الإنسانية لمواطني الجنوب السوري الذين اصطلوا بنار الحرب الأهلية على مدى سنوات.
رواتب للمتمردين
وتلفت تسوركوف إلى أن إسرائيل اعتمدت رواتب للمقاتلين المتمردين، بلغت حوالي 75 دولارا في الشهر للفرد، كما دفعت أموالا إضافية استخدمتها الفصائل المتمردة في شراء أسلحة من السوق السوداء في سوريا، وفقا لما قاله متمردون وصحفيون محليون.
خلقت هذه الأموال – إضافة إلى الخدمات التي كانت تحصل عليها إسرائيل في مقابلها – توقعات وآمالا لدى المتمردين بأن إسرائيل لن تتوانى عن التدخل إذا حاولت القوات الموالية للرئيس الأسد التقدم في الجنوب السوري، لكن سرعان ما أفاقت هذه الفصائل المتمردة لاحقا على تخلي إسرائيل عنها في مواجهة ضربات الجيش السوري، بدعم من سلاح الجو الروسي، في الصيف الماضي، ما جعلها تتجرع مرارة الخيانة، التي أعرب عنها أحد مقاتلي جماعة فرسان الجولان: “لن ننسى هذا الدرس، إسرائيل لا تعبأ كثيرا بالأفراد، ولا تراعي الأوضاع الإنسانية، ولا تهتم سوى بمصالحها الخاصة”.
وتضيف الباحثة أن إسرائيل سعت إلى أن تبقي علاقاتها بهذه الفصائل والجماعات طي السرية. ورغم أن بعض وسائل الإعلام نشرت تقارير عن هذه العلاقات، إلا أن المقابلات التي أجرتها مجلة Foreign Policy مع أعضاء هذه الميليشيات بهذا الشأن تظل المصدر الأهم والأكثر تفصيلا حتى الآن عن الدعم الذي قدمته إسرائيل إلى هذه المجموعات، خاصة أنها تتضمن شهادات موثقة من ممثلي جميع الفصائل المقاتلة، الذين اشترطوا عدم الكشف عن أسمائهم وفصائلهم.
لكن التقرير يشير في الوقت نفسه إلى ان كميات الأسلحة والأموال التي نقلتها إسرائيل إلى هذه الجماعات، التي تضم آلاف المقاتلين، تعد قليلة نسبيا إذا ما قورنت بما تم ضخه من دول أخرى شاركت في الحرب الأهلية على مدى سبع سنوات، بما في ذلك قطر والمملكة العربية السعودية وتركيا والولايات المتحدة، ما جعل قادة الفصائل المتمردة يشكون شح إسرائيل معهم حتى في ذروة برنامج المساعدات الإسرائيلية في وقت مبكر من هذا العام.
دور محوري
وحسب التقرير، فإن المساعدات الإسرائيلية ، رغم شحها، لعبت دورا محوريا في خدمة الأهداف الاستراتيجية لإسرائيل في المنطقة، كونها كانت وسيلة – إلى جانب وسائل أخرى – تنتهجها تل أبيب لمنع إيران من ترسيخ أوضاعها في سوريا، مثلما كانت وسيلة لتنفيذ ضربات جوية على المعسكرات الإيرانية وفرض ضغوط سياسية عليها عبر روسيا، وسيط القوة الرئيس في سوريا. وقد رفض متحدث باسم السفارة الإسرائيلية في واشنطن التعليق على هذه القصة.
ويضيف التقرير أن هذه المساعدات أثارت أيضا تساؤلات حول توازن القوى في سوريا فيما تشارف الحرب الأهلية هناك على الانتهاء، فبينما لا تبدي القوات الإيرانية التي ساعدت الأسد على إلحاق الهزيمة بالمتمردين أية نية للانسحاب من سوريا، يزداد احتمال تحول سوريا إلى بؤرة توتر بين إسرائيل وإيران، حسبما يرى التقرير.
وأورد تقرير “فورين بوليسي” المزيد من التفاصيل حول دور إسرائيل تسليح الجماعات المتمردة الموالية للجيش السوري الحر منذ عام 2013، بما في ذلك الفصائل الموجودة في القنيطرة ودرعا والمناطق الجنوبية من ريف دمشق. وكشف التقرير أن أغلب الأسلحة التي تم نقلها في هذا الوقت كانت من البنادق الهجومية M16 أمريكية الصنع، وبعد ذلك، تحولت إسرائيل إلى تزويد المتمردين بأسلحة أغلبها غير أمريكية- ربما لإخفاء مصدر المعونات – بما في ذلك الأسلحة والذخائر التي يعود مصدرها إلى شحنة إيرانية كانت في طريقها إلى حزب الله اللبناني قبل أن تستولي عليها إسرائيل في عام 2009.
وظل حجم المساعدات المقدمة إلى هذه الجماعات ثابتا لبعض الوقت، لكنه ازداد بصورة لافتة في العام الماضي، حيث تحولت إسرائيل من دعم مئات المقاتلين إلى دعم جماعات تتألف من آلاف المتمردين، وتزامن ذلك مع تحول أكبر في السياسات الإسرائيلية في سوريا بعد فشل المطالبات إلى الإدارة الأمريكية والكرملين للتوصل إلى اتفاق يضمن إبعاد الميليشيات التي تدعمها إيران عن جنوب سوريا، ما انعكس في نزوع إسرائيل لتبني سياسات أكثر عدوانية، وشمل ذلك توجيه ضربات الطيران الإسرائيلي إلى عمق الأراضي السورية واستهداف، ليس فقط شحنات الأسلحة الفردية القادمة من طهران إلى حزب الله، وإنما أيضا القواعد الإيرانية في جميع أنحاء سوريا.
فرسان الجولان
تم الإعلان عن جماعتين من الجماعات التي تدعمها إسرائيل، وهما فرسان الجولان المتمركزة في بلدة جباتا الخشب الحدودية بمحافظة القنيطرة، ولواء عمر بن الخطاب المتمركز في بلدة بيت جن المتاخمة لجبل حرمون. وعلى عكس دعم أطراف أجنبية أخرى للمعارضة السورية، لم تبذل إسرائيل جهودا تذكر لتنظيم وتعزيز برنامجها للمساعدات، وبدلا من ذلك، اعتمدت على علاقاتها مع عدد من القادة الذين وجهت مساعداتها إليهم مباشرة.
جماعة فرسان الجولان التي يدعمها الكيان الاسرائيلي
ووفقا لمتمردين في الجنوب السوري، تواصل هؤلاء القادة مع المسئولين الإسرائيليين هاتفيا، كما تقابلوا معهم في بعض الأحيان وجها لوجه في الجولان المحتلة. وكانت المساعدات الإسرائيلية تتبع هؤلاء القادة إينما حلوا، سواء في حال قيامهم بتغيير الجماعات التي ينتمون إليها، أو المواقع التي يتمركزون فيها، كما كانت تتوقف تماما في حال تعرضهم للقتل أو الإقصاء وفقا لمآلات الصراعات الداخلية.
كانت جماعة فرسان الجولان هي الفصيل المفضل لدى إسرائيل، وفي العام الماضي فقط، أضافت الجماعة مئات المقاتلين إلى صفوفها بعد زيادة التمويلات التي تتلقاها من إسرائيل، وفقا لما أورده التقرير عن بعض أعضاء الجماعة. كما قامت الجماعة أيضا بتوزيع السلاح القادم من إسرائيل على الجماعات الأخرى؛ وهو ما أدى إلى زيادة نفوذها وتأثيرها في القنيطرة ودرعا.
قدمت إسرائيل أيضا دعما ناريا للفصائل المتمردة التي تقاتل العناصر المحلية التابعة لتنظيم الدولة في حوض اليرموك. ووفقا لمتمردين محليين وصحفيين وسكان، فقد نفذت إسرائيل ضربات جوية بطائرات بدون طيار لاستهداف قادة داعش، وضربات صاروخية محددة الأهداف ضد أفراد التنظيم وحصونه ومركباته أثناء معاركه ضد المتمردين. ولم تقدم إسرائيل دعما ناريا مشابها للعمليات الهجومية التي نفذها المتمردون ضد قوات النظام.
الجار الطيب
وثمة فائدة أخرى جنتها إسرائيل جراء المساعدات الإنسانية والعسكرية التي قدمتها للفصائل المتمردة، فقد أصبح كثيرون من سكان الجنوب السوري ينظرون إليها باعتبارها حليفا، حسب ما يذهب إليه التقرير. كما روجت إسرائيل لبرنامجها “الجار الطيب” (Good Neighbor) باللغة العربية، بما في ذلك العمليات الإنسانية في الجنوب السوري ومعالجة بعض السوريين في مستشفيات إسرائيلية.
وتفيد تسوركوف أن “Y.” – المقاتل في صفوف جماعة فرسان الجنة – أخبرها قبل بضعة شهور بأن “إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي لها مصالح في المنطقة، مع قليل من الاهتمام بالأوضاع الإنسانية عبر ما تقدم من مساعدات للمدنيين”.
ولكن بعد أن عززت القوات الموالية للأسد، المدعومة من روسيا وإيران، سيطرتها على المزيد والمزيد من المناطق في سوريا، شرعت إسرائيل في البحث عن وسائل أخرى تضمن بها مصالحها على طول الحدود. ففي شهر يوليو الماضي توصل مسئولون إسرائيليون إلى صيغة تفاهم مع موسكو تسمح لقوات الجيش السوري بالعودة إلى درعا الغربية والقنيطرة، وهي مناطق قريبة من مرتفعات الجولان. في المقابل، تعهدت موسكو – كما أفادت بعض التقارير- بالإبقاء على الميليشيات التي تدعمها إيران على مسافة 80 كم (حوالي 50 ميلا) من مرتفعات الجولان، وعدم عرقلة الهجمات الإسرائيلية على أهداف إيرانية في جميع أنحاء سوريا.
خذلان “الأصدقاء”
وحسب التقرير، فإنه حتى بعد أن شرعت قوات الأسد في الهجوم على جنوب سوريا، تعلق كثير من السوريين في المنطقة بالأمل في قيام إسرائيل بمنع النظام من استعادة السيطرة على محافظة القنيطرة المجاورة، وفر آلاف المواطنين إلى المنطقة المتاخمة لمرتفعات الجولان، لكن إسرائيل خذلتهم ولم تتدخل لحمايتهم.
ونقل التقرير عن أحد القادة المحليين في درعة الغربية، الذي وافق على الإشارة إليه فقط بـ ’أبو خالد‘ أنه أدرك على الفور أن الاعتماد على إسرائيل كان خطأ جسيما، وأضاف: “صدقني، ستندم إسرائيل كثيرا على صمتها حيال ما حدث في جنوب سوريا، لقد تصالحنا في بلدتنا والمدن المجاورة مع النظام على مضض، لكن هذه المصالحة ستؤثر على إسرائيل في المستقبل القريب”.
ومع استمرار زحف قوات الجيش السوري، تواصل بعض المتمردين مع المسئولين الإسرائيليين وطلبوا منهم السماح لهم باللجوء إلى إسرائيل خوفا من انتقام قوات الأسد. ورد المسئولون الإسرائيليون بالسماح لعدد صغير فقط من قادة التمرد وأفراد أسرهم بالدخول إلى إسرائيل في ليلة 22 يوليو، بينما قوبلت طلبات الآخرين بالرفض.
ولا تزال أماكن إقامة هؤلاء القادة وأقاربهم غير معلومة . ووفقا لبعض الأفراد في سوريا، تفيد بعض الروايات بوجود بعضهم داخل إسرائيل، ووجود آخرين في الأردن، وقد أبلغ قائد سابق جنوده بوصوله إلى تركيا.
أما بالنسبة إلى الجنود العاديين فقد اختار أغلبهم البقاء في بيوتهم والاستسلام للنظام بدلا من الفرار إلى إدلب، التي تمثل الملاذ الأخير للمتمردين. وقد تم اعتقال عدد منهم بتهمة التعاون مع إسرائيل، بيما انضم آخرون إلى الميليشيات الموالية للنظام، أو إلى الجيش السوري نفسه كوسيلة لتجنب اضطهاد النظام.