أحد أهم ما ميز مسيرة حسن الترابي الأمين العام لحزب المؤتمر الشعبي السوداني أنه أصر على تحرير الحالة الإسلامية في السودان من التبعية لحركة الإخوان المسلمين في مصر وتنظيمها العالمي. يلحظ ذلك كل من يتابع أداء الرجل الذي يعد أبرز علامات تأسيس الإسلام السياسي في السودان، منذ بادر في وقت مبكر بتأسيس الجبهة الإسلامية للدستور عام 1954، ثم أسس جبهة الميثاق الإسلامي عام 1964، وأسس الجبهة القومية الإسلامية عام 1985، واستمر يلعب دورا محوريا على الصعيد الديني والسياسي باعتباره المرجعية الأبرز للإسلاميين في السودان حتى وفاته في مارس 2016 عن عمر يناهز 84 عاما.
في كل هذه المحطات لم يتهيب الترابي أن يعلن صراحة انتقاداته العديدة لجماعة الإخوان، وهي الانتقادات التي وجدت صدى علي وجه الخصوص لدى الإسلاميين في تونس، الذين تبنوا منهجه بالتخفف من ثقل ميراث الإخوان في مصر. الخط الاستراتيجي للترابي تلخص في تجاوز الاستغراق في القضايا التربوية والأخلاقية والتركيز علي الفرد، ونهجه السياسي القائم على البراغماتية والتحالفات والانتقال من موقف إلي موقف، والتشديد علي فكرة الدولة والسلطة باعتبارهما مفاتيح تطبيق خطة الإسلاميين في فرض الشريعة والأسلمة علي المجتمع.
راشد الغنوشي
ساعد ذلك النهج الترابي على أن ينتقل من السجن في عهد النميري إلي التحالف معه لكي يصبح نائبا عاما ومشرفا علي مشروعه في ذلك الوقت للتغلغل داخل المجتمع السوداني وأسلمته، وأتاح له لاحقا أن ينقلب علي حكومة الصادق المهدي المنتخبة عام 1989 لكي ينفذ من خلال البشير خططه بالاستيلاء على السلطة، لتدخل بعدها السودان في دوامة مرعبة من الإجلاب والحشد الإسلامي، والسعي لبناء أممية إسلامية عالمية متجاوزة للحدود بقيادة الترابي نفسه، عبر رئاسته المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي الذي تأسس عام 1991، وتبنى مفهوما للثورة الإسلامية أقرب إلى نهج ثورة الخميني التي كان الترابي يؤمن بمنطقها، كما تبنى مفهوم الجهاد الإسلامي في مواجهة مطالب جنوب السودان في دولة لا تفرض الشريعة علي مواطنيها، ولا تستخدم الأسلمة سبيلا للقضاء علي خصوصية المجتمعات وتنوعها وتعددها، ما أفضى لاحقا إلى انفصال جنوب السودان.
وهكذا تحولت الحركة الإسلامية في السودان إلي الحزب الحاكم الذي يقوده عمر البشير والذي أصبح اسمه “المؤتمر الوطني” بعد حل حسن الترابي للجبهة القومية ونقل كوادرها إلي الحزب الجديد. وظل الترابي يضع التصورات الاستراتيجية لجبهة الإنقاذ الحاكمة بقيادة البشير، ما قاد إلي نظام رئاسي دعمه الترابي الذي كان رئيسا للبرلمان. وقادت تلك النزعة الاستبدادية للنظام إلى مركزة السلطة والثروة في العاصمة، واشتعال الحروب الأهلية في مناطق عدة منها دارفور والنيل الأزرق مع نهج العنف في التعامل مع أهالي تلك المناطق والمتمردين فيها. هذا الخلاف الداخلي حول السلطة بين قطبي التيار الإسلامي الذي بدا برأسين أحدهما الأكبروهو الترابي والثاني الأصغر وهو البشير رئيس الدولة، كان من الطبيعي أن يفضي إلى صدع في حزب المؤتمر الوطني الحاكم الذي أصبح تعبيرا عن الإسلاميين في السلطة، فتم حل البرلمان وإعلان حالة الطوارئ والقبض علي الترابي من قبل تلاميذه في الحكم، ليؤسس الترابي بعدها حزبه (المؤتمر الشعبي) معتمدا على كوادره التي خرجت معه من الحزب الحاكم، وينتقل من موقع الحكم إلى رئاسة أكثر الأحزاب معارضة للنظام الحاكم. ولكل ما سبق يعد الترابي الشاهد الأبرز على تقلبات الحالة الإسلامية السودانية في مساراتها وأفكارها.
وفي أخريات حياته الحافلة بالتحولات، وقف الترابي في لحظة صدق يقول: أريد الاطمئنان علي الوطن قبل أن أموت. أطل وقتها على ما يعيشه السودان والعالم العربي من تقلبات وأعاصير ودوامات تهدد وحدته وكيانه، وساوره الخوف أن تتحول بلاده إلي صومال أخرى، خاصة مع ضعف بناها الاجتماعية والسياسية، ورأى أن النظام السياسي الأنسب في هذه الظروف هو النظام البرلماني وليس الرئاسي، بوجود رئيس وزراء مسئول أمام البرلمان واختيار ولاة الأقاليم عبر الانتخاب وليس التعيين كما هو الحاصل فعليا.
وخلص الترابي إلى أن التحولات التي شهدها السودان في التعليم والانفتاح علي العالم وزيادة التطلعات إلي الحرية تفرض التحول إلى نظام سياسي يقوم على التوافق وليس الإكراه والفرض، ومن هنا أطلق أطروحته التي أثارت الاهتمام في السودان عما أسماه “النظام الخالف”، ويعني به فترة انتقالية تتجاوز الوجوه السياسية المتصدرة الساحة السودانية، للعمل على إرساء وضع جديد يتم فيه التأكيد على أن الحرية هي السبيل للوحدة وليس الاستبداد أو الإكراه، مع إقرار دستور يعترف بالتوافق والتعددية والديموقراطية والحرية ونزع العنف والإقرار بمشاكل المناطق المتمردة في الولايات.
ولعل هذه الرؤية الجديدة للترابي كانت وراء توجهه بالنصح إلي الإخوان في مصر بعدم ترشيح أحد منهم إلي الرئاسة، وعدم الذهاب إلي منازع السيطرة علي السلطة والانفراد بها، وتجنب استخدام الدين كأداة لتبرير وسائل الفرض والقسر وتهديد أنماط الحياة التي اعتاد الناس عليها.
ويبقى في النهاية أن يستخلص الإسلاميون الدروس المستفادة من خبرة الرجل وتحولاته، وأن يطرحوا على أنفسهم أسئلة طالما أعرضوا عنها وأهمها:
ما جدوى التنظيمات الإسلامية في مجتمعات أغلبيتها مسلمة؟
ما أهمية الاستيلاء على السلطة إذا لم يكن هناك توافق من المجتمع عليها؟
ما أهمية الارتباط بتنظيمات مجاوزة للحدود ذات طابع عولمي وتغليب مصالحها على مصالح الأوطان في الداخل؟
لمن يكون الانتماء والولاء؟ للأوطان التي نعيش فيها أم لتنظيمات تطرح فكرة الخلافة الإسلامية علي طريقة داعش؟
لماذا التلبس بروح دينية عاطفية كثيفة في التعامل مع الناس تجعلهم موضوعا لتعبيرات نفسية أكثر منها واقعية فيما ينتظر الناس حل مشاكلهم الحياتية وتحسين معاشهم وأحوالهم اليومية؟
وأخيرا، لماذا الاستناد إلي القوة والعنف كأداة في الخلافات السياسية سواء من قبل الدولة التي يحكمها إسلاميون كما هو الحال في السودان أو من قبل تيارات إسلامية ترى جنتها الموعودة في استخدام القوة لتغيير الواقع علي كره منه ومن الناس؟.
تحولات الترابي وخبرته تدعونا أن نتجاوز مفهوم التنظيمات المغلقة وتبني العنف وتوظيف الدين والسعي إلي السلطة وتصور الانفراد بها بلا مشاركة أو توافق مع بقية القوى الاجتماعية والسياسية والنظر إلي الآخرين باعتبارهم أدنى مرتبة وعليهم أن يتلقوا منا وينصهروا في مشروعنا الإسلامي دون نظر إلي تنوع المجتمع الديني والعرقي والإثني.
جرب الرجل كل ما سبق ولم يجد له نفعا، بل أنه أنتج قهرا واستبدادا وغيابا للعدالة والحرية، ومن ثم خلص إلى رؤية مفادها أن يتحول جهد تلك الجماعات والتنظيمات إلي حالة مندمجة مع مجتمعاتها يعمل كل واحد منها باعتباره عضوا نافعا في مجتمعه ينشط عبر مؤسساته القانونية والدستورية ووفق قدرات المجتمع وعطائه، بعيدا عن أوهام فرض رؤية من أعلي تتدثر بالدين وتدعي احتكار الحقيقة، فذلك هو السبيل لمستقبل يحرر تلك الجماعات من أوهامها ويحفظ لأوطاننا وحدتها ونهوضها .