انتهى الصحفي البريطاني من أصول فلسطينية “مدين ديرية ” من تحقيق استقصائي طويل استغرق عدة سنوات أجراه ما بين لبنان وسوريا حول تنظيم “فتح الإسلام”، ذلك التنظيم الفلسطيني الذي ظهر فجأة في مخيم نهر البارد في لبنان قرب نهاية عام 2006، معلنا أن هدفه هو قتال إسرائيل، وتم تصفيته بالكامل قبل نهاية 2007.
المؤلف وضع تحقيقه في كتاب يستعد لطرحه في الأسواق بعنوان “فتح الإسلام.. النشأة والمصير”. أسئلة كثيرة دارت حول ذلك المشوار الذي قطعه المؤلف في رحلة سعيه لتقصي أسرار هذا التنظيم ليضمها في الكتاب الذي يصدر بعد ما يقرب من 11 عاما من نهاية التنظيم على الأرض، وما سر اختياره هذا التنظيم تحديدا دون غيره من تنظيمات أخرى تنتشر في سوريا والعراق.
المؤلف في هذا الحوار مع “أصوات” يرد على كل ما طرحناه من أسئلة كاشفة للعديد من الأسرار حول التنظيم اللغز، وحكايته من الميلاد إلى الفناء.
يقول مدين ديرية: مشواري مع هذا التحقيق بدأ قبل 9 سنوات تقريبا، بعد أقل من عامين من انتهاء التنظيم، واضطررت أن استمر فيه كل هذا الوقت حتى الآن لجمع كل المعلومات في ظل صعوبة الوصول إلى مصادر وناجين من التنظيم الذي تفرقت عناصره في العديد من البلدان.
ويضيف: سبب اختياري لهذا التنظيم بالذات، ينبع من ذلك الغموض الذي أحاط بملابسات القضاء عليه وهو ما يزال بعد في طور التأسيس، ما أثار العديد من التساؤلات حول هويته وانتمائه وأهدافه وارتباطاته العقائدية، وهي التساؤلات التي لم يسبق أن تم تقديم إجابات شافية عنها للرأي العام.
ويتابع: سعيت للحصول على هذه الإجابات عبر رحلة طويلة وشاقة استمعت خلالها إلى روايات المعتقلين من عناصر التنظيم داخل السجون والأجهزة الأمنية وبيانات المحاكم والمصادر الرسمية، بالإضافة إلى بعض أعضاء التنظيم السابقين الموجودين في حلب والرقة وإدلب بسوريا، الذين تحدثوا معي دون مخاوف أمنية، وأخيرا روايات من ساعدتني الظروف على الالتقاء بهم من نساء التنظيم.
ويكشف المؤلف في حواره عن محصلة ما توصل إليه ودفعه لإصدار الكتاب: أهم الأسرار التي كشفت النقاب عنها هي علاقة التنظيم بالقاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في العراق وكواليس الاتصالات بينهم، وأيضا مصير شاكر العبسي وكيف تم اصطياده، فضلا عن تفاصيل الاختراق الأمني للتنظيم، وكشف أسماء وجنسيات عدد من العملاء الذين جرى تجنيدهم من أجهزة مخابرات مختلفة لاختراق التنظيم، معظم بطلاتها نساء نجحن في اختراق التنظيم وخداع عناصره وقياداته، كما ينفرد الكتاب بخريطة الهيكل التنظيمي الكامل للتنظيم، التي تنشر للمرة الأولى.
البدايات الأولى
المزيد من التفاصيل عن أسرار التنظيم لم يشأ المؤلف أن يتطرق إليها تفصيلا في حوارنا معه، تاركا لنا نسخة من مسودة الكتاب الذي لم يصدر رسميا بعد، لاستعراض ما يسرده من وقائع واعترافات غير مسبوقة، حسب تأكيد ديرية.
يستهل الكتاب فصوله بالسيرة الذاتية لـمؤسس تنظيم فتح الإسلام “شاكر العبسي”، وهو من مواليد مدينة أريحا القدس في 1955، ودرس الطيران في ليبيا عام 1976، وانضم لحركة فتح ثم انشق عنها وانضم لحركة فتح الانتفاضة، التي انشقت عن حركة فتح عام 1983 بقيادة نائب قائد قوات العاصفة نمر صالح، والعقيد أبو خالد العملة.
شاكر العبسي، نمر صالح، أبو خالد العملة
بدأت مساعي “العبسي” لتأسيس تنظيم يحارب إسرائيل مبكرا منذ عام 1984، كان وقتها ما يزال داخل فلسطين ونجح في إنشاء تنظيم محدود عمل على تزويده بالأسلحة المتاحة ورسم الخطط له لممارسة نشاطاته المناوئة لإسرائيل، لكن سرعان ما تم اكتشاف أمره والقبض على أغلب عناصره في عام 1987، ليختفي العبسي عدة سنوات يعود للظهور بعدها في لبنان عام 1995، بعد أن قدم استقالته من الجيش الليبي الذي كان يعمل فيه بوظيفة مدرب طائرات حربية.
لعب العبسي في البداية دورا في منظمة “فتح الانتفاضة” إلا أنه عاب على قيادات المنظمة عدم امتلاكهم لمشروع قتالي ضد إسرائيل، وقرر بعدها تغيير مساره بالكامل لينضوي ضمن صفوف التيار الجهادي ويبدأ تأسيس مجموعة جديدة داخل فلسطين أيضا عام 2000 تحت مظلة بعض قادة “فتح الانتفاضة” مثل أبو خالد العملة، إلا أن تلك المحاولة لم يكتب لها الاستمرار طويلا بعد أن تم توقيف العبسي من المخابرات السورية عام 2002 أثناء محاولته تهريب أسلحة لمجموعته بفلسطين عبر صحراء الجولان، ليودع السجن حتى عام 2005.
بعدها يقرر العبسي الانشقاق الكامل على “فتح الانتفاضة” ليبدا خطوات إنشاء تنظيم “فتح الإسلام” في فبراير عام 2006 دون أن يعلن عنه حتى 23 نوفمبر 2006، ذلك اليوم الذي شهد معارك طاحنة في مخيم البداوي مع تنظيمات فلسطينية أخرى منها “فتح الانتفاضة” انتهت بسيطرة شاكر العبسي على مقراتها في مخيم البدوي ومخيم نهر البارد وإعلان تنظيمه رسميا يوم 27 نوفمبر.
نهاية مبكرة
يؤكد هيثم الشعبي، أحد الباقين من التنظيم، في حديثه مع المؤلف أن التنظيم ظل مسيطرا على المخيم حتى 20 مايو عام 2007 عندما بدأت معارك الجيش اللبناني مع التنظيم واستمرت 15 أسبوعا متتالية في معارك ضارية انتهت بالإجهاز تماما على أغلب عناصر التنظيم في سبتمبر 2007.
هيثم الشعبي
ويسرد المؤلف في كتابه تفاصيل معركة مخيم نهر البارد، موضحا أنها بدأت بسرقة عناصر “فتح الإسلام” بنكا في مدينة أميون في 19 مايو عام 2007 فقام الجيش اللبناني بمداهمة عناصر فتح الإسلام في مدينة طرابلس وقتلهم جميعا، ما دفع شاكر العبسي أن يأخذ قرارا بضرب نقاط للجيش اللبناني على أطراف المخيم، لتبدأ بعد ذلك معركة نهر البارد وتستمر لمدة 15 أسبوعًا، بعد مقتل 168 من الجيش اللبناني، و120 من فتح الإسلام، ونزوح 40 ألف شخص من منازلهم، حسب ما ورد .
ويتضمن الكتاب تفاصيل اخرى عن مبادرات الوساطة التي جرت من بعض الأطراف قبل حسم المعركة للتوسط بين الجانبين المقاتلين بهدف إنهاء القتال ووضع حد لنزيف الدماء. وفي لقاء أجراه “مدين ديرية” مع محمد إبراهيم الحاج الأمين العام لرابطة علماء فلسطين في الخارج الذي كان شاهدا على المعركة وطرفا في محاولات عدة لوقف إطلاق النار بين الطرفين كما كان صاحب مبادرة إخراج نساء التنظيم وأطفاله منعا لقتلهم في المعركة، يقول الحاج في شهادته: كثفت لقاءاتي مع الجيش اللبناني وحركة فتح الإسلام لإيقاف المعركة منذ يومها الأول إلا تجاذبات سياسية كثيرة شهدتها لبنان حالت دون التهدئة في الثلاثة أيام الأولى، وبعدها تواصلنا من جديد وكانت قيادات الجيش تتجاوب في حين تتمسك فتح الإسلام بالقتال، واقتصر الإنجاز على وقف إطلاق النار مرتين إفساحا لدفن الموتى، وسمحت مخابرات الجيش لنا بإدخال سيارات الطعام والإسعاف قبل فرار المدنيين.
محمد إبراهيم الحاج
ويمضي محمد الحاج في روايته: واصلنا مبادرتنا لإنهاء المعارك حتى نجحنا في الوصول إلى اتفاق مبدئي يتضمن إعلان فتح الإسلام وقف النار من جانب واحد والانسحاب إلى داخل حدود المخيم القديم وتسليم مراكز وأسلحة التنظيم لقوات أمنية فلسطينية، مع تسليم المطلوبين لسلطات التحقيق، إلا أن السفارة الأمريكية تدخلت لرفض الحل واستئناف المعارك ضد التنظيم.
ويضيف: وقتها اتصل أحد عناصر فتح الإسلام وطالب بإخراج أسر التنظيم وعدم اعتقالهم ووافق الجيش اللبناني، إلا أن العملية تأجلت لرفضها من قادة التنظيم، وبعد أسبوعين اتصل متحدث التنظيم أبو سليم طه وطلب نفس الطلب ورحب الجيش اللبناني ونجحت المبادرة في إنقاذ أرواح 65 طفلا وامرأة يوم 24 أغسطس 2007، بعدها طلبت مبادرة شاملة لإجلاء الجرحى واستسلام المسلحين ووافق متحدث فتح الإسلام بعد رفض أولي، إلا أننا استيقظنا صبيحة اليوم التالي على فرار عناصر فتح الإسلام”.
مصير العبسي
ويسرد مدين ديرية قصة هروب شاكر العبسي ومعاونيه من المعسكر، ويورد هنا شهادة حصل عليها من محمد الشعبي العضو السابق في “فتح الإسلام”: جرى هروب العبسي وعناصر التنظيم عبر قنوات تصريف المياه ووصلوا إلى مخيم البداوي وظلوا عند شيخ يدعى أبو حمزة لمدة 6 أشهر ثم تركوا منزله إلى سوريا خوفا من اعتقاله، وفي يوليو عام 2008 تعرض العبسي و 2 من مرافقيه لكمين في سوريا جرى خلاله قتال أسفر عن قتل شاكر العبسي، حسب شهادة أحد سجناء التنظيم الذي أكد مقتل العبسي ودفنه في تدمر دون شاهد أو شاخص يحدد مكان دفن قائد التنظيم، الذي لم يتم الإعلان رسميا عن وفاته حتى الآن.
ويكشف الكتاب أن آخر عملية إرهابية نفذها التنظيم كانت في سبتمبر 2008 من خلال تفجير فرع فلسطين بدمشق (سجن تابع للمخابرات السورية) ردا على اختفاء شاكر العبسي، ويورد الكتاب تفاصيل العملية التي نسقها خبير متفجرات يدعى عبد الغني جوهر ونفذها عضو التنظيم أبو عائشة السعودي انتقاما لمقتل العبسي وامتنانا لفضله عندما رفض أن يتركه في مخيم نهر البارد بعد إصابته الشديدة وحمله لمدة 40 يوما. وينشر الكاتب مع هذه الواقعة صورة وفيديو لمنفذ العملية.
عبد الغني جوهر، أبو عائشة السعودي
ويؤكد الكاتب هنا أنه بعد وفاة العبسي ضربت الخلافات صفوف التنظيم، خاصة بين أبي محمد عوض أبو علي أمير التنظيم في مخيم عين الحلوة، وأبو الوليد عبد الباقي الحسين، لينتهي الأمر بال قبض على أبو الوليد في أكتوبر 2008 ومقتل أبي محمد عوض عام 2010 لينتهي التنظيم تماما.
وفاء العبسي
أورد المؤلف في كتابه تفاصيل تخص التنظيم حصل عليها من “وفاء العبسي” ابنة مؤسس التنظيم، التي سبق ظهورها على شاشة التلفزيون السوري الرسمي عقب عملية فرع فلسطين بدمشق لتعلن أن تنظيم والدها حصل على أموال من التيارات السلفية ومنهم متشددون موجودون في طرابلس لبنان وكذلك من تيارات أخرى بهدف ضرب استقرار لبنان.
في حديثها مع مؤلف الكتاب تبرر وفاء العبسي ما أدلت به وقتها من تصريحات بأن الأمن السوري كان يحتجزها وساومها على أن يخرج أطفالها من السجن ويسلمهم لعمهم شرط الظهور على التلفزيون الرسمي والتحدث بما يملونه عليها فوافقت، وعليه تم اللقاء. وتضيف: “لا أستطيع وصف جرح المذلة بسبب هذا اللقاء وتمنيت لو أني مت قبل أن أقول ما قلت”.
مع القاعدة وداعش
من الأسرار التي كشفها الكتاب الهيكل التنظيمي الكامل لـقيادات فتح الإسلام، حيث يورد أسماء 12 شخصية تمثل الهيئة القيادية للتنظيم برئاسة شاكر العبسي، وتضم القائمة أبو مدين إبراهيم عمر عبد الوهاب نائب العبسي الذي قتل في أول معارك البارد وهو فلسطيني سوري، وأبو سليم طه محمد الزاوري فلسطيني سوري مسئول إعلامي وناطق رسمي، أبو بكر الشرعي الأردني محمود فلاح، أبو فراس السوري مسئول اللجنة المالية، شاهين أبو سلمة فلسطيني لبناني مسئول المرافقين لشاكر، أبو رتاج الجزراوي منسق المهاجرين السعوديين، أبو الوليد السوري، أبو شعيب الجزائري عضو اللجنة الشرعية، أبو المنذر الأردني مسئول اللجنة العسكرية، أبو الحارث الجزائري مسئول اللجنة الشرعية، أبو الليث محمد طيورة سوري ومسئول أمني، أبو هرير شهاب قدورة المسئول العسكري لبناني.
كما يكشف الكتاب كواليس رسائل واتصالات وعلاقات جرت بين شاكر العبسي وتنظيم القاعدة بدأها في سوريا عام 1995 عبر مساعدة عناصر من الجماعة الليبية المقاتلة الهاربة من النظام الليبي حيث وفر لهم مأوى هم وعائلاتهم قبل أن يتم القبض عليهم بعد ذلك. ويؤكد المؤلف حسب ما أورد في كتابه أن العبسي ساعد أيضا في تهريب الأسلحة لـ أبو مصعب الزرقاوي في الأردن لاغتيال الدبلوماسي الأمريكي لورانس فولي عام 2002 مقابل مساعدة تنظيم القاعدة له في ضرب إيلات الإسرائيلية بالصواريخ.
ويقول المؤلف أن قوة العلاقات بين الزرقاوي والعبسي أخذت في الزيادة لدرجة أن الأول سمح لعناصر تنظيمه بالانضمام لـفتح الإسلام الذي وصلت أعداد منتسبيه إلى ما يقرب من 250 شخصا، وأن شاكر العبسي أرسل طلبا لقبول بيعته لصالح الدولة الإسلامية في العراق في 30 إبريل 2007 تم رفضه في البداية، لكن سرعان ما تراجع التنظيم وقبل بيعة العبسي.
غواية النساء
يؤكد الكتاب أن الضربة القاضية لمحاولات إعادة إحياء التنظيم بعد وفاة مؤسسه شاكر العبسي جاءت عبر نجاح المخابرات السورية في تجنيد عناصر نسائية اخترقت عمق التنظيم ونجحت في غواية قياداته لتمنع إعادة ترتيب أوراقه بعد وفاة العبسي، أهم هؤلاء زينب حريشية، وهي سورية الجنسية تم تدريبها لاختراق التنظيم في مخيم نهر الحلوة حيث تزوجت أحد قياداته ما جعلها تحصل على كافة المعلومات عن كل قادة التنظيم وأماكنهم ليجري اعتقالهم بعدها بشهور.
وحسب المؤلف، كانت “حريشية” السبب في الكمين الذي قتل فيه شاكر العبسي بعد أن اتصلت بوفاء العبسي تطلب نجدتها بعد القبض على قيادات التنظيم في مخيم عين الحلوة، فسهلت لها دخولها سوريا والزواج من أحد أعضاء التنظيم هناك، وبعد أشهر توصل الأمن السوري لكل العناصر وتحديد مكان اختباء العبسي ونصب كمين أسفر عن مقتله، ويشير المؤلف إلا أنها كانت تحصل على 500 دولار راتبا شهريا.
ومن بين هذه العناصر النسائية أيضا يسرا زكي، التي ينسب إليها الكتاب الضلوع في نصب كمين لابنة شاكر العبسي “وفاء” في بيتها باللاذقية وتسليمها للمخابرات السورية، مقابل مكافأة 4 ألاف دولار وراتب شهري 200 دولار. كما يشير الكتاب إلى شخصية تدعى شهرزاد أم عز الدين، ينسب إليها أنها أوقعت 15 من عناصر التنظيم، من بينهم أخوها وأخو زوجها ووالده، في قبضة الأمن السوري.