قبيل رحيله في الحادي والعشرين من أبريل عام 2015 قدم الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي للمكتبة العربية واحدًا من أهم كتبه.
كتاب الأبنودي حاسم جدًا وصادم للغاية، ويكفي عنوانه “الشاعر المصري ابن عروس ليس مصريًا وليس شاعرًا”. أرسل الأبنودي كتابه إلى الهيئة العامة للكتاب التي شهد رئيسها في ذلك الوقت الدكتور أحمد مجاهد بأن الأبنودي قد راجع بنفسه “بروفة” الكتاب ولكنه رحل قبيل صدروه.
كتاب الأبنودي هو بدون مبالغة قنبلة، ولكنها لم تنفجر. هناك سببان يقفان خلف عدم انفجار قنبلة الأبنودي: الأول: الرحيل المباغت لشخص المؤلف، فقد انشغل الجميع بالحديث عن قديمه الشاهق ولم يتلفت أحد إلى كتابه الذي كان آخر ما خطه. السبب الثاني: مكابرة الذين تخصصوا في الدراسات الأدبية، الشعبية منها بصفة خاصة، فهؤلاء بنوا لابن عروس صرحًا، وعزّ عليهم أن يأتي الأبنودي فينسف بنيانهم بكتاب صغير.
يُرجع الأبنودي أسطورة ابن عروس إلى كتيب كانت تنشره وغيره من الكتيبات مكتبة من مكتبات شارع الأزهر في مطلع القرن الماضي، وكانت تلك الكتيبات تباع في أسواق القرى والنجوع بثمن بخس، ويقبل على شرائها الذين يعرفون القراءة لكي تكون مادة سهرهم وسمرهم.
الكتيب الذي خلق الأسطورة حمل عنوان “ابن عروس”، ويحتوي علي بعض من «مربعاته الشعرية» ويقص بصورة ساذجة عن قاطع طريق كان يغير علي بيوت الأغنياء وممتلكاتهم، وفي ليلة اختطف عروسا ليلة عرسها وحين أراد أن يفعل بها الفاحشة خاطبته بمربع شعري عن النزاهة والأمانة والعرض فارتبك وتاب وأناب وأعادها إلي أهلها سالمة وجلس هو يغزل علي وزن «مربعها» الشعري مربعات حكم دامت وعاشت حتي الآن.
ثم صدر كتاب في الستينيات للأستاذ «محمود فهمي إبراهيم» اتكأ فيه علي الكتيب الصغير الساذج الذي قرأناه ليحوله إلي حقيقة من حقائق الشعر الشعبي المصري أو الشعر بشكل عام، إلى جانب مخطوطة «تيمورية» أوردت بعض نصوص منسوبة للرجل الأسطورة.
نحن لا نلوم محمود فهمي إبراهيم علي تصديقه الوريقات الساذجة، وكان يمكنه أن يورد «المربعات الشتوية الشعرية» ويقدمها لنا بأسلوبه الجميل ووعيه العميق، ولكننا نؤكد وقوعه في فخاخ الواقعة المختلقة التي تحولت إلي ظاهرة فيما بعد.
لقد أتى من تسلم القصة من بعده ليحولوها إلي حقيقة وليؤكدوا أن «ابن عروس» إنسان حقيقي، كأنهم التقوه وحاوروه واستمعوا إليه، دون تمحيص أو تدقيق أو محاولة للمعرفة الحقيقية، انتشوا بروعة الاكتشاف الزائف، ليحولوا الرجل الوهم إلي أكثر شعراء مصر أصالة تجربة وصدق تعبير وصفاء رؤية واحتضان لا لبس فيه لضمير الوعي والاحساس الشعبيين، وربما اتخذوه مطعنا لإبداعنا الشعري.
يفجر الأبنودي قنبلته فيقول بحسم: لم يكن هناك ابن عروس في مصر المملوكية، ولم يحدث أن كان ابن عروس (الوهمي) شاعر مقاومة استفزه ظلم الظالمين وقسوة الحاكمين إلى كل تلك المعلومات المؤلفة عن «روبن هود» المصري زعيم العصابة الذي صارت الحكومة تعمل له ألف حساب، ولم تدركه شيخوخة ليتوب وينوب في أواخر عمره.
كذلك لم يكن الرجل الوهم مختبئا يوما في مغارة ثم هجم علي موكب عروس ليفر أهلها وينطلق بها، فنظرت فرأته فقالت شعرا أدخل التوبة إلي قلبه في الحال.
لا أدري كيف جرؤ هؤلاء علي ادعاء تاريخ لحياة الرجل ـ الذي لم يوجد ـ ووقائعه ونوع الحياة في زمنه، والقول بثقة في انه في عام 1780 ميلادية عاش ابن عروس.
يمضي الأبنودي في هدم الأسطورة فيقول: ابن عروس تونسي وقد أرخ له كتاب يحمل عنوان “ابتسام الغروس ووشي الطروس في مناقب سيدي أحمد بن عروس”، وهو من تأليف عمر بن علي الراشدي الجزائري. يتألف كتاب الجزائري من 522 صفحة وكلها حصر لمناقب الصوفي الكبير وكراماته التي شهدها الكاتب من بعض ملازمته أو مما سمع من آخرين يعتقد صدقهم، وعدد المناقب التي دونها في كتابه مائتين بالتمام والكمال.
في التعريف بالشيخ أبو العباس أحمد بن عبد الله بن محمد بن أبو بكر بن عروس «الهواري».. (وقد أختلف علي «أبي بكر»)، يقول الراشدي: «وكنت جمعت بالزاوية العروسية من نظن به معرفة نسب الشيخ من سائر أصحابه وقراءته فاتفقوا علي صحة ما قبل أبي بكر من آباء الشيخ واختلفوا في أبي بكر فمنهم من صححه ومنهم من قال إنما هو «علي» ولم يستند واحد منهم في صحة دعواه إلي أمر جلي. فلما كثر بينهم ذلك الاختلاف ولم يحصل منهم فيه علي ما أكتبه ائتلاف، صعدت إلي الشيخ رضي الله عنه مع بعض أصحابه متعرضين في المسألة الي جوابه، فقال وقد أطلعه الله من أمر اختلافهم علي سره، فعلمت بإشارة الشيخ أن اختلافهم لا أثر لقائله.
وكان جده ـ وهو ما يهمنا في هذا المجال وربما كان هو الهدف من كتابة هذا العمل ـ كان جده (عروس) المذكور من أكابر الصالحين علي ما ذكره قرابة الشيخ وانعقدت عقود أشربتهم وغيرها أنهم (هوارة).
ويقول الراشدي الجزائري: حدثني الثقة أنه سمع الشيخ في غير ما مؤمن يقول: «نحن من عرب تميم»، وكذلك سمعته منه رضي الله عنه، فهو علي هذا «تميمي»، والله أعلم.
ومولده بقرية بالجزيرة القبلية علي مسافة خمسين ميلا عن تونس اسمها «المزاتين» بوادي الرمل، وكان يسمي «بأحمد الرضاع» من أجل أنه كان ملازما للرضاع وهو في سن من يلعب مع الصبيان. ويقول أحد اقربائه المسنين ـ أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن عروس: ولقد رأيته يلاقي أمه وعلي ظهرها جرة الماء قد استقتها وهي منقلبة بها الي بيتها فيحلف لها لترضعنه فتحني عليه وهو قائم وتناوله ثدييها، وأمه «مسراتية» المنسب واسمها «سالمة» تأيمت بموت زوجها والد الشيخ وتزوجت وحملت معها لبيت زوجها الشيخ لصغر سنه دون أخويه الأكبرين «أبي بكر» و«عبد المغيث»، ومازال مع أمه الي أن مات زوجها وأولاده من غير أمه لوباء استأصلهم، فرجع الي أخويه وأهله وقال لهم حين رآهم: «مات هو وأولاده – يقصد زوج أمه وأولاده ـ وسلمت أنا وأمي»، فضحكوا منه لمقالته هذه.
ثم إنه ـ رضي الله عنه ـ فرّ من أهله قبل بلوغه وجاء الي تونس وآوي منها الي زاوية الشيخ ابي عبد الله محمد المحجوب، ثم صار يتنقل ثم حفظ القرآن وصار يجوده.
وزيادة علي ملازمته لخدمة مقام الشيخ «سيدي محرز بن خلف» فقد خدم نشارا للخشب بدار العود، وخدم أيضا نجارا خارج باب السويقة من تونس، وشوهد ينجر المحاريث بقرية الأنصارين بجبل شعيب غربي تونس، وخدم في أفران، وفي عمل البنيان، وكان أهله يخجلون من امتهانه تلك المهن، ولقد ذهبوا اليه وهو في فرن القصيبة من بلد «بنزرت» ليمنعوه بالقوة عن ممارسة هذه الأعمال والعودة به قسرا الي بلدته، إلا أن صاحب الفرن أكرمهم واستضافهم ليلة وظل يحكي لهم عن مناقب وكرامات ابنهم، وفي الصباح حين حاولوا اعادته وألحوا عليه في ذلك، استلقى رضي الله عنه على قفاه وقال لهم: «كروني من كراعي» ثم سكت عنهم وتركهم علي ما هم عليه من إعلان الملام وتوسيع دائرة الكلام:
عابوا المحب وقد رأوا لغرامه أثرا أعاد ربوعه آثارا
عذلوه إن خلع العذار ولو دروا سر الغرام لأوسعوا الاعتذار
كم بين من يستعذب التعذيب في مرضاه من يهوي ويعتلي نارا
فدعوا الملام واعذلوا إن الهوي ما بيننا قد أسدل الأستار
ثم انتقل ابن عروس من «قصيبة بنزرت» إلي «باجة»، وكان أكثر جلوسه عند باب الجامع الأعظم منها، وكان مدة إقامته بها يعمد الي الأفئدة التي يلقيها الجزارون أيام رخص اللحم عندهم، فيغسلها ويطبخها، وكان رضي الله عنه يأكل المنبوذات من الخضر والكسر الملقاة ولا يتسول.
ثم إن ابن عروس انتقل الي «ميلة» وجلس بها لتأديب الصبيان ومن «ميلة» انصرف الي المغرب وأقام بمقام الشيخ الولي الكبير «أبي مدين شعيب» رضي الله عنه بتلمسان، ويرددون أنه دخل فاس ووصل إلي مراكش ودخل «سبتة» أعادها الله لإقامة كلمة التوحيد بها. ومن كلامه الدال علي صحة ذلك المستفيض النقل عنه
قوله:
جميع البلاد شولت
حتي لسبته الحصينة
أنا مثل «بنزرت» ما رأيت
الوادي وسط المدينة
انتهى اقتباس الأبنودي من كتاب “الراشيدي”، ويعلق الأبنودي على المربع فيقول: ليس به من المصرية شيء. ثم يشرح الأبنودي المربع فيقول: يتكون من أربعة أشطر تتشابه قافيتا شطريه الأول والثالث من جانب والثاني والرابع من جانب، ومن ارتطام القوافي تتولد الحكمة التي هي سبب النظم.
والعجيب أن المربع فن تلاحق فيضه في الشمال الإفريقي بلا حدود، ولا ينسبون المربعات لسيدي أحمد بن عروس إلا في مصر.
لقد اخترعوا قصة ذلك الفارس الذي تاب لينسبوا المربعات المصرية إليه، ولو فكروا بعمق وأبعدوا عن أذهانهم صورة ذلك الفارس الكاريكاتوري لأعطوا الحق لصاحبه. لا أعني بصاحب الحق ابن عروس وإنما أعني ذلك الاتصال الحميم بين الشمال الأفريقي وصعيد مصر.
لقد كان أهل المغرب الذين كانت أهالينا تتبرك بهم ويعتقدون في صدق تدينهم وأحيانا تصوفهم، يستريحون في قرانا بالشهور. هل كانوا يقضون كل ذلك الزمن صامتين؟ لقد كانوا يسمعون ويستمعون. هكذا تصاهروا واختلطوا وقصوا، ومن ضمن ما قصوا عن أولياء الله الصالحين قصوا عن سيدي أحمد بن عروس، الذي كما رأينا لم يكن لصا أو فارسا يغير علي بيوت الآمنين أو حتي الأغنياء.
وربما هم الذين نقلوا إلي مصر فن المربع الذي وجد فيه فلاح الصعيد الفقير متنفسا للتعبير عن هموم لا تختلف كثيرا عن همومه وفي الوقت ذاته طوَّع ما لم يتواءم مع طبائعه وتصوراته للأمور، إذ لن تجد مربعا صعيديا واحدا ينال من المرأة لأنها تتقاسم المعاناة وقسوة الأحوال مع رجلها.
كنت صادقا أشد الصدق حين قلت إني لم أعرف أحمد بن عروس ولم أسمع اسمه، وأن معظم المربعات تنسب لعلي النابي، وربما خلط الوراقون بين الاسمين علي الرغم من أن صفات النابي على قسوته وجبروته تستبعد كونه لصا أو قاطع طريق، إذ كان وضعه ووظيفته تدران عليه مالا وفيرا وكان من أثرياء الصعيد.
والسؤال الآن: هل قال سيدي ابن عروس المتصوف التونسي أو أنشد مربعات؟ والإجابة : نعم. وهل ثمة إثبات يقيني أن تلك المربعات مربعاته، أم أنه عاد بها من بلاد المربع الأصلية وهي المغرب العربي؟ ولماذا كل ما نقل عنه خمسة مربعات فقط لا غير، نسب عمر الراشدي مربعًا واحدًا منها لابن عروس، والأربعة الباقية نسبها لشاعر يدعى «ابن عون»؟
يؤكد الأبنودي على أن ضريح الشيخ سيدي أحمد بن عروس المتوفى سنة 868هــ 1463م أقامه الأمير الحفصي المستنصر 838 هـ / 1434م وهو ضريح شهير جدًا بتونس.
وبعد أن انتهى الأبنودي من إثبات تونسية ابن عروس ونفي المصرية عنه، كشف عن أصل المربع المصري الصعيدي وعن أهم وأبرز شعرائه، وهذا ما نتناوله في الجزء الثاني من المقال.