كتب: فانس سيرشوك
ترجمة و عرض: تامر الهلالي
منذ ما يقرب من ستة أشهر، عانى الاقتصاد التركي، أحد أكبر اقتصادات العالم من أزمة خانقة، ما أثار مخاوف من عدوى مالية أوسع تشمل بلدانا أخرى. فمنذ ربيع هذا العام تعرضت العملة التركية لتراجع قياسي مع ارتفاع في معدلات التضخم المحلي، ما امتد أثره بالفعل إلى أسواق ناشئة أخرى من الأرجنتين إلى إندونيسيا. ومع ذلك، فالعنوان الأهم الذي يمكن استخلاصه من الاضطرابات الأخيرة في تركيا هو سياسي بالدرجة الأولى أكثر من كونه اقتصادي، إنه بالأساس خطر الرهان على حكم الرجل الواحد القوي.
وفي الحقيقة، فإن المخاوف من تعرض الاقتصاد العالمي لانتكاسة على خلفية الأزمة في تركيا تبدو فرضا في غير محله، وعلى عكس الأزمة المالية الآسيوية في أواخر التسعينيات، عندما أدى انهيار العملة التايلاندية إلى إطلاق العنان لاضطرابات مالية إقليمية، فإن مشكلات تركيا لا تعطي مؤشرًا على ضعف منهجي في الاقتصاد بقدر ما تعكس بالأساس مشكلات سياسية تخص تركيا. فمعاناة الاقتصاد التركي تبدو نتيجة طبيعية لتدخلات سياسية في إدارة السياسات النقدية، مع عجز في الحساب الجاري هو الأعلى بين الاقتصادات النامية في مجموعة العشرين، وديون متراكمة تثقل كاهل القطاع الخاص في الخارج هي الأكبر في أي سوق ناشئة، وأخيرا صراع غير مبرر مع واشنطن تصاعد إلى عقوبات قاسية يسدد الاقتصاد تبعاتها.
ردة ديمقراطية
الخطر الأكبر في أزمة الاقتصاد التركي يكمن بالفعل في نمط الحكم السلطوي للبلاد تحت رئاسة رجب طيب أردوغان، وتداعياته الثقيلة على الاقتصاد. نجح أردوغان مبكرا في قيادة بلاده إلى إنجازات وضعتها في طليعة الاتجاه العالمي، ومثلما شهد العالم اجتياح موجة من الديموقراطية في منتصف السبعينيات أطاحت دكتاتوريات عتيدة من البرتغال إلى كوريا الجنوبية، وأخيرا الإمبراطورية السوفييتية، فقد شهدت السنوات الخمس عشرة الأخيرة موجة عالمية معاكسة من صعود نموذج أنظمة حكم الرجل الواحد.
في هذا النمط من أنظمة الحكم تتسم السلطة بطابع شخصي للغاية، مع تركز كل مؤسسات القوة في الدولة حول حاكم فرد يحكم السيطرة المباشرة على كل جوانب الدولة والمجتمع تقريبًا. ويبرر أصحاب هذا النموذج في الحكم تراكم هذه السلطة الجارفة في يد الحاكم الأوحد باعتبارها أقصر الطرق لتقدم البلاد إلى الأمام وتعظيم القوة الوطنية وتحديث مؤسسات الدولة.
الأخطر أن تأثر العالم بنمط حكم الرجل القوي والحاكم الأوحد في السنوات الأخيرة تجاوز نطاق الجغرافيا والثقافة، وتصدر أردوغان بشعاراته الشعبوية ذات الطابع الإسلامي هذه الموجة من الردة العالمية نحو الديكتاتورية التي بدأت في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وضمت أيضا فلاديمير بوتين في روسيا وهوغو شافيز في فنزويلا، وتصاعد تأثيرها لاحقا إلى أبعد من ذلك، من فيكتور أوربان في المجر إلى رودريغو دوتيرت في الفلبين.
رودريغو دوتيرت، فيكتور أوربان
بطبيعة الحال، فإن صعود أنظمة حكم الرجل الواحد يرتبط عضويا بالتآكل الممنهج للديمقراطية عالميا على مدار الخمسة عشر عامًا الأخيرة، لكن تأثير نموذج الرجل الأقوى هو في الواقع أوسع من ذلك، ليس فقط كونه يعطل الحياة في ديمقراطيات مخادعة مثل روسيا، حيث تجري الانتخابات صوريا ويتم التلاعب بإجراءاتها بشكل صارخ، ولكن أيضا على مستوى تكريس نظم حكم استبدادية سافرة، كما هو الحال في الصين وعدد من بلدان الشرق الأوسط على سبيل المثال. والمفارقة أن بعض هذه البلدان، كالصين والسعودية مثلا، تمتعت بنوع من القيادة الجماعية والمؤسسية النسبية قبل عقد من الزمان، إلا أنهما تراجعتا لاحقا عن ذلك النمط لصالح نموذج القرار الأوحد صاحب الرأي الحاسم في قيادة البلاد.
عوامل عدة ساهمت في انتشار نمط حكم الرجل القوي، أكثرها حسما هو الوقوع تحت تصور أن هذا النموذج يحقق النجاح دائما. المنطق الذي يسوق لهذا النمط من الحكم يرى أن حقوق الإنسان والحريات المدنية ليست محل اعتراض من حيث المبدأ، ولكن عندما يحترق العالم يصبح من الضروري أن يتصدى لمسؤولية الحكم من يمتلك الكاريزما والشخصية القوية والقدرة على الحسم، وحتى لو اتسم حكم هؤلاء بقدر من التجاوزات، فإنهم يظلون يمتلكون الشجاعة اللازمة لفعل ما يجب القيام به، وإلا كان البديل المتاح هو وقوع البلاد في الجمود والركود.
لا يقتصر إغراء هذا المنطق على القوميين والشعبويين فحسب، بل إنه يجد صدى أيضا لدى كثيرين من تلاميذ العولمة مثل دونالد ترامب ومارين لوبان، الذين يبدون ردود فعل واهنة حيال ممارسات الحكم المستبد في العديد من البلدان، خاصة أولئك الذين يظهرون في محافل عالمية نافذة مثل منتدى دافوس لترويج أنفسهم ونظم حكمهم بإعلان تبني حكوماتهم إصلاحات هيكلية مؤلمة ورفع شعار قمع الفساد، فيما يعرضون على العالم ما في جعبتهم من مشاريع البنية التحتية المربحة.
الاستبداد المستنير
واقع الأمر أن من يطلقون على أنفسهم وصف الليبراليين يبدون قدرا واضحا من التساهل مع ما يرونه مبررات مقنعة من أصحاب “الاستبداد المستنير”، خاصة وأن ذلك الاستبداد يقع في بلد آخر. والحقيقة أن تركيا قدمت تحت حكم أردوغان لسنوات عديدة قصة نجاح قوية. ورغم انتهاج نظام الحكم في تركيا ممارسات قمعية تسببت في اضطرار بعض وسائل الإعلام المستقلة إلى إغلاق أبوابها في وقت مبكر من منتصف العقد الأول من القرن الحالي، مع اعتقالات جماعية لضباط جيش متقاعدين بتهمة التخطيط لانقلاب عسكري، وهو ما تواكب مع جرائم قتل واغتيال معارضين في روسيا خلال نفس الفترة، إلا أن مثل هذه الحوادث جرى تجاوزها عالميا بزعم أن هذه الدول لديها في نهاية المطاف قادة أقوياء بإمكانهم إخراج بلادهم من حالة ركود عانت منها لأمد طويل.
والشاهد أن العقد الأول من حكم أردوغان حفل بالفعل بإنجازات ملموسة، فقد ارتفع نمو الاقتصاد وتراجع التضخم وتضاعف دخل الفرد، كما نجحت الدولة في اجتذاب بعضا من أفضل العقول وأذكى الكوادر إلى صفوفها، فضلا عن تدفق المزيد من المستثمرين الغربيين، وتعزز ذلك باحتضان الولايات المتحدة وغيرها من الديمقراطيات الأخرى لأردوغان كقوة صاعدة وشريكة واعدة على الساحة الدولية.
المعضلة أن الشهية إلى تركيز القوة تأخذ في النمو كلما زاد الصعود، وفي الوقت نفسه غالباً ما يتواكب ذلك مع وهن وفساد المؤسسات التي يفترض أن توفر الأساس الحقيقي طويل الأمد للحكم السليم والدينامية الاقتصادية، والتي تتمثل غالبا في سلطة قضائية مستقلة ومهنية، صحافة حرة، إدارة حكومية كفء، هيئات تنظيمية فعالة، أجهزة أمنية مؤهلة.
خطورة الأمر هنا أنه في حين أن الأنظمة القوية يمكن أن تكون ناجحة لبعض الوقت، وفي بعض الأحيان بشكل مذهل، فإنها عادة ما ينتهي بها المطاف إلى إعادة إنتاج المشكلات التي يفترض أنها عملت على حلها أو قطعت شوطا على طريق معالجتها.
حلقة مفرغة
و يبقى السؤال: إلى أي مدى يستطيع الحاكم السلطوي تغيير البلاد للأفضل. هذا السؤال يطرح نفسه بشكل مأساوي على ما يبدو في عهد أردوغان الذي أصبح صنع القرار فيه متقلبًا ومتهورًا بشكل بتناسب مع التزايد الفادح في تركيزالسلطة في يده. علاوة على ذلك، فإنه مع تضييق الدائرة الداخلية حول الرئيس التركي، لم يعد أمام التكنوقراط الأكفاء من بديل سوى أن يفسحوا المجال بشكل متزايد للمحتالين وعديمي الكفاءة من أصحاب الولاء للحكم. في الوقت نفسه خلقت الأساليب الاستثنائية المستخدمة للقضاء على الفساد فرصًا لا تقاوم لمظاهر جديدة أكثر إثارة من الفساد.
وبمرور الوقت تصبح عملية تصحيح الذات أكثر صعوبة في أنظمة الرجل القوي، لأن المعلومات التي تشق طريقها إلى القمة هي على نحو متزايد ما يريد الحاكم القوي أن يسمعه فقط، مما يؤدي إلى حلقة مفرغة من ردود الفعل التي تعزز الأخطاء بدلاً من تصويبها.
هذه الديناميكية بدت واضحة بشكل خاص في تركيا في الأشهر الأخيرة، بإقدام أردوغان، الذي طالما اعتنق أفكاراً غير تقليدية حول السياسة النقدية، على منع البنك المركزي مراراً وتكراراً من الإضطلاع بزيادات أسعار الفائدة التي ربما لو كانت نفذت لكانت قد قضت على الأزمة المالية قبل أن تصل إلى معدلات حرجة. وقد نجح البنك المركزي هناك أخيرا قبل أسبوعين في رفع أسعار الفائدة بحدة، لكن الشكوك حول استقلاله لا تزال قائمة، حيث لم يبد أردوغان نفسه تحمسا شديدا لهذه الخطوة، بعد أن أرسى سابقا مبدأ أن الزيادة في الأسعار تعتبر تنازلا مضطربا قد يرتد بنتائج سلبية في أي وقت.
ولكي نكون عادلين بما يكفي، علينا الإقرار بأن الأفراد مهمون في التاريخ وليس كل رجل قوي محكوم على تجربته بالفشل بالضرورة، لكن الحقيقة أن المشاكل التي تربك تركيا ليست عشوائية أو عرضية، وليس الأمر كما يروج البعض بأن الخطأ الذي تقع فيه أنظمة حكم مستبدة ربما ينتج عن أخطاء في التطبيق، بل إنه بالأساس في صلب الفكرة، نهج حكم الرجل الواحد وتجميع كل السلطات في يده.
أصبح من المألوف أن يوصف أردوغان بأنه سلطان عثماني جديد، تماماً كما يتم ترويج حكم بوتين بأنه يعيد مجد قياصرة روسيا القدامى، مثل هذه التلميحات التاريخية تمثل لمؤيدي هؤلاء الزعماء وحتى للعديد من خصومهم، استحضارا للقوة والأصالة بأوهام إحياء ماضيهم الإمبراطوري المجيد. لكن الأمر رغم ذلك يستحق استحضار التشبيه لتذكر المصير الذي حل بالإمبراطوريات التركية والروسية. فالواقع أن الاستبداد الشخصي في كل من محكمة رومانوف في بطرسبورغ وفي الباب العالي في القسطنطينية كان مصدر ضعف، وليس قوة، لا سيما وأن هذه الأنظمة دخلت في منافسة مباشرة مع الغرب.
قد يمكن لسلطان أو قيصر شل الأنظمة لعدة عقود، لكن تبقى المعضلة دائما في كيفية التوفيق بين الدولة القوية والحديثة مع الامتيازات الاستبدادية التي يبدو تصميمهم على الحفاظ عليها لأنفسهم. والنتيجة، كما هو الحال الآن، أنه في حين يمكن للإصلاح من أعلى أن يسفر عن دفعات من التقدم المأمول، إلا أن هذه الجهود مصيرها عاجلاً أم آجلاً أن تختنق من الداخل، جراء ما يلحقها من تخريب وليد الطبيعة الشخصية للنظام الذي ولدها.
في لحظة ما في التاريخ عندما يستثمر عدد متزايد من البلدان في تعليق آمالهم على الأشخاص بدلا من المؤسسات ويرون في ذلك وصفة النجاح، فإن الاضطرابات التي تشهدها أنقرة تقدم تذكيراً في الوقت المناسب بالمصير الذي يقوده عادة هذا النوع من الحكم. قد يتخيل الرجال الأقوياء أنفسهم كمنقذ وطني لا غنى عنه، لكنهم في أكثر الأحيان يتحولون إلى قنابل موقوتة تنفجر في وجه أولئك الذين لم يتزودا من الحكمة بما يكفي ليراهنوا بمستقبل بلادهم عليهم.
هذا المحتوى مترجم
تعريف بالكاتب: فانس سيرشوك هو زميل بارز مساعد في مركز الأمن الأمريكي الجديد