حتى مطلع القرن الماضي كانت دراسة علم أصول الفقة مقصورة على الأئمة المٌعممين من علماء الأزهر الشريف وفي أروقته العتيقة، غير أن جهودا حثيثة مبكرة من شيخ الأزهر الشيخ مصطفى عبدالرازق سعت إلى نقل هذا المبحث الأصولي الهام إلى الجامعات المدنية.
يمكننا أن نعتبر أن أول باحث (مدني) يتناول علم أصول الفقة بدراسة علمية منهجية كان المرحوم الدكتور علي سامي النشار تحت إشراف من الشيخ مصطفى عبدالرازق، حين قدم دراسته الهامة التأسيسية “مناهج البحث عند مفكري الإسلام”. ثم تبعتها المرحلة الثانية مع المفكر الدكتور حسن حنفي الذي تناول علم أصول الفقه في مجلده “من النص إلى الواقع” ضمن مشروعه “التراث والتجديد”.
أما المحاولة الثالثة، وهي التي نتوقف عندها، فقد جاءت عبر رسالة الدكتوراه للدكتور كريم الصياد المدرس المساعد بكلية الآداب جامعة القاهرة، تحت عنوان “نظرية الحق.. دراسة في أسس فلسفة القانون والحق الإسلامية”، والتي اعتبرها حسن حنفي في مقدمة الطبعة الأولى من الكتاب “أهم دراسة في حقل أصول الفقه منذ كتاب المستصفى للغزالي والموافقات للشاطبي”.
صالون “علمانيون” احتفى هذا الأسبوع بإصدار الرسالة العلمية في الكتاب الذي يحمل نفس العنوان، في طبعته الأولى. المؤلف قدم لرواد الصالون عرضا وافيا لمنهجيته في استقراء النصوص والمطالعة والتنقيب في أعماق التراث بحثا عن أصول نظريته الأصولية.
تدور فكرة الدراسة حول محاولة اكتشاف نظرية أصولية تقوم على أساس من الحقوق الطبيعية للإنسان، فعندما نتحدث عن موقف الشريعة الإسلامية من حقوق الإنسان، فنحن في حاجة لدراسة نظرية الحق في الإسلام، ولكي ندرس نظرية الحق في الإسلام علينا دراسة علم أصول الفقة.
يثير الصياد في كتابه تساؤلا هاما: هل هناك تعارض بين حقوق الإنسان الطبيعية في الإسلام، وهي حقوق سابقة على مفاهيم التشريع وغير مستمدة بالضرورة من سلطة (الشارع) بتعبير الفقهاء والأصوليين.. وما بين تلك الحقوق التي منحها له الشرع؟ وهل كانت هناك نظرية للحق فعلا في التاريخ الإسلامي؟
يمكننا أن نتلمس أصولا لتلك النظريات في بعض القضايا الأصولية، فالجويني في كتابه البرهان مثلا، كان يرى أن الأحكام تقوم على مفهوم التعليل، فلكل حكم علة، والأحكام لم تطلق جزافا، غير أن هذا التعليل اختلف الأصوليون حول الاتفاق عليه، ومن هنا يذهب الصياد إلى أن الشريعة الإسلامية قامت أساسا على فكرة إقامة العدل، فقضية تحقيق العدالة قضية محورية في الجانب التشريعي، لكن الصراع كان حول الكيفية التي يتم بها تطبيق العدالة، وقد دار هذا الصراع بين مفهومين: الأول هو مفهوم الحق، أما الثاني فهو مفهوم الحكم.
في هذا الصراع كانت الغلبة لنظرية الحكم على الحق، وأصبح الامتثال للأحكام هو جوهر الشريعة، وليس مفهوم الحق، ففي علم أصول الفقه لا يوجد حق إنساني مستقل، فكل الحقوق في علم أصول الفقه مستمدة من الشريعة الإسلامية. وهنا يؤكد الباحث أن تأسيس علم أصول جديد على أساس من نظرية الحق الطبيعي سيحل الكثير من إشكالات استنباط الأحكام المعاصرة لاسيما فيما يتعلق بقضايا حقوق الإنسان.
للباحث أجر المجتهد، وللجميع وعلى رأسهم علماء الأصول بالأزهر الشريف مناقشة الباحث في منهجيته وطرق استدلاله والنتائج التي خرج بها، لاسيما في وقت يكثر فيه اللغط والنقاش ويحتدم الجدل حول قضايا تجديد الفكر الديني، وهو ما لا يمكن تحقيقه ما دامت علوم كأصول الفقه وعلم الكلام جامدة لم تشهد تغييرا في الأسس التي أقيمت عليها منذ القدم.