عندما اقتحم جيشنا قناة السويس وحطم خط بارليف، كان يسطر انتصارًا باهرًا للعقل على الحديد. الأصل في ذلك أن موازين القوى كانت ترجح وبشدة كفة عدونا، فسلاحه أفضل وأحدث من سلاحنا ومعظم القوى الكبرى في العالم تقف في صفه، بالجملة لم يكن لنا تفوق واضح سوى في العدد.
ولكن عندما بدأت المعارك تبخر كل تفوق كان العدو قد حققه ورجحت كفتنا، وذلك لأن جيشُا من المبدعين المصريين عمل لسنوات على ضمان سد أي ثغرة وإن صغرت يمكن أن ينفذ منها العدو ويتعرف على خططنا ويفشل المفاجأة التي كانت العنصر الرئيس في نصرنا العظيم.
في هذا السياق كتب الراحل فاروق نبيل كتابه “الدرس” الذي جمع فيه قصصا حقيقية من أرشيف المخابرات العامة ظلت لأعوام طويلة تحت تصنيف “سري للغاية”. وفق كتاب الأستاذ فاروق نبيل كانت البداية مع فكرة إخلاء المستشفيات في إطار الاستعداد للحرب المقبلة. كان شرط نجاح عملية الإخلاء أن تتم تحت عين العدو ولكن بدون أن يدرك مغزاها الحقيقي. تقديرات الخبراء كانت تشير إلى وقوع عدد هائل من المصابين بين صفوف جيشنا، وهؤلاء لابد من علاجهم في أسرع وقت ممكن، ولن تستوعب مستشفيات القوات المسلحة الأعداد المقدر إصابتها، لذا لابد من إخلاء المستشفيات العامة، وهذا ما كان.
يقول نبيل: في سبتمبر 1973 اجتمع عدد من رجال المخابرات العامة، أي قبل الحرب بأسابيع قليلة، للتشاور في كيفية إخلاء المستشفيات لسبب منطقي دون إثارة الشكوك لدى العدو، وبعد اجتماع دام 7 ساعات متواصلة، توصلوا إلى أن الإخلاء لا بد أن يكون لسبب طبي بحت، وهو أن المستشفيات غير مؤهلة لمعالجة المرضى لتفشي الأمراض والأوبئة بداخلها بما يهدد حياة نزلائها. ولتنفيذ تلك الخطة، تم إعفاء ضابط طبيب من إحدى الوحدات العسكرية بالسويس من الخدمة العسكرية وعودته للحياة المدنية، ولما كان ذلك الإجراء نادر الحدوث في تلك الفترة، أظهر الضابط فرحة وسعادة كبيرة بالأمر، وأقنع المقربين منه بأن تفوقه هو ما منحه ذلك الامتياز عن أقرانه بعودته للحياة المدنية لاستكمال دراساته العليا التي توقفت بسبب التحاقه بضباط الاحتياط.
تسلم الضابط خطاب تعيينه بمستشفى الدمرداش، الذي يعتبر من أكبر المستشفيات الحكومية، وبعد مضي أسبوع من تسلمه لمهام عمله في المستشفى، تقدم بمذكرة لمدير المستشفى تفيد أن معظم عنابر المستشفى ملوَّثة بـ”التيتانوس”، وبالطبع لم يقتنع المدير، ولكن مع إصرار الطبيب على رأيه، وتحذيره لمدير المستشفى بأنه سيتحمل عواقب تفشي الميكروب وسط المرضى، قرر المدير إجراء فحص شامل، وتم أخذ بعض العينات من العنابر وإرسالها للمعامل المركزية بوزارة الصحة.
وبالرغم من خلو المستشفيات فعليا من “التيتانوس”، فإن نتائج التحاليل جاءت لتؤكد أن جميع العينات إيجابية، وكأن المستشفى الشهير تحول إلى مزرعة نشطة للميكروب، وبالفعل صدر قرار بإخلاء المستشفى تماما من المرضى الموجودين بها وتوزيعهم على باقي المستشفيات. واجتمع رجال المخابرات العامة مرةً أخرى للتفكير في كيفية إخلاء باقي المستشفيات الحكومية بخطة مختلفة، لأنهم لو اتبعوا الأسلوب ذاته في باقي المستشفيات ستنتبه المخابرات الإسرائيلية إلى أن الأمر ليس طبيعيا مما سيثير شكوكهم ويدفعهم إلى دراسة الأمر وتحليله، ومن المرجح أن يتوصلوا إلى السبب الحقيقي وراء الإخلاء، وهو الاستعداد للحرب.
لذلك لجأت المخابرات إلى حيلة أخرى، وهي الاستعانة بالصحافة لنشر تحقيقات تدور كلها حول خطورة المستشفيات الحكومية على حياة المرضى، لتفشي الأمراض الوبائية بها نتيجة الإهمال المسيطر على قطاع الصحة. وبالفعل نشرت الأهرام خبر إخلاء مستشفى الدمرداش بسبب تلوث عنابره بداء “التيتانوس”، ثم انهمرت الكتابات الصحفية المنددة بإهمال المستشفيات الحكومية مما كان له بالغ الأثر في نفوس المواطنين، ومع تلك الحملة الصحفية الساخنة على المستشفيات أصدرت وزارة الصحة قرارا بإجراء تفتيش وقائي على باقي المستشفيات لطمأنة المواطنين بأن المستشفيات الحكومية خالية من الأمراض، وجاءت نتائج التحاليل لتؤكد وجود عدوى في المستشفيات.
المدهش أن العملية كانت مقصورة على المستشفيات التي تنوي وزارة الدفاع إخلاءها استعدادا للحرب، بينما المستشفيات الصغيرة جاءت نتائجها أنها خالية من الأمراض والأوبئة. ومع الأيام الأولى لشهر أكتوبر كان العدد المطلوب من المستشفيات قد تم إخلائه نهائيا، ونشرت جريدة الأهرام تحقيقا صحفيا مطولا عن ذلك الأمر مع صور العنابر والأسرَّة الخالية وعمليات التطهير المستمر للمستشفيات. وبالفعل نجحت خطة المبدعين المصريين في إخلاء المستشفيات دون لفت نظر العدو.
أما الخبر السعيد في تلك العملية فقد جاءت به الأيام إذ أن معدلات الخسائر التي قدَّرها الخبراء بنحو 50% في موجة العبور الأولى، قد انخفضت لأقل من 10% فعليا.
بعد تلك القصة المثيرة التي حقق فيها مبدعونا أقصى درجات النجاح، يذكر نبيل فاروق قصة ثانية لا تقل عظمة عن سابقتها. يقول فاروق: في أحد اجتماعات المخابرات المصرية لاستكمال خطة الخداع والتمويه الكبرى لحرب أكتوبر، تحديدا في مايو 1973، واجهتهم مشكلة قد تبدو للبعض بسيطة ولا أهمية لها، ولكنها في الحروب شديدة الأهمية، وهي مشكلة المصابيح اليدوية، خاصة أنه مع اندلاع الحروب تكون هناك فترة إظلام إجبارية.
طرح السؤال نفسه: كيف ستوفر مصر الكميات الكافية للمصابيح وطرحها بالأسواق دون إثارة شكوك المخابرات الإسرائيلية، خاصة وأن مصر لا تصنعها وتقوم باستيرادها؟ لم يكن من الممكن أن يترك رجال المخابرات المصرية ثغرة واحدة في الخطة التي يعدون لها منذ سنوات، مهما بدت بسيطة أو جانبية، فعدم وجود الكم الكافي من المصابيح اليدوية في أثناء فترة الحرب كفيل بإثارة الأعصاب ورفع معدلات التوتر، خاصة مع الإظلام الإجباري، واستيرادها أيضا كفيل بتعريض خطة الخداع كلها للخطر وإنذار العدو بما يتم الإعداد له.
يواصل فاروق: لبحث خطة توفير المصابيح اجتمعت عقول المخابرات العامة اجتماعًا تاريخيًا تواصل لثماني عشرة ساعة، وجدوا أن الحل الوحيد يكمن في أن توجد كمية كافية من المصابيح اليدوية في الأسواق بشكل غير رسمي، وعلى نحو لا يمكن أن يثير شكوك العدو، عبر الاستعانة بمهرب محترف. ولكن تلك الفكرة انطوت على مخاطرة كبيرة، فكيف تضمن المخابرات ذلك المهرب، أو أن تتزايد الكميات المعروضة من المصابيح في الأسواق على نحو مباغت ترصده مخابرات العدو.
في نهاية الأمر تم تسليم مهمة توفير المصابيح بشكل لا يثير التساؤلات لضابط مخابرات، في اليوم التالي توجه الضابط المختار بعناية إلى مبنى وزارة الداخلية والتقى مع عدد من قيادات الداخلية المسؤولين عن عمليات التهريب وأخبرهم أنه يقوم ببحث ودراسة حول المهربين وطرقهم، وطلب منهم قائمة بأسماء أكبر المهربين الذين لم يتم ضبطهم متلبسين وبعد دراسة أسماء المهربين وقع اختياره على مهرب يدعى “مرزوق المحلاوي”.
ورث المحلاوي مهنة التهريب من أبيه وعمل في التهريب منذ الحرب العالمية الثانية، وحفظ مسالك ودروب الصحراء والثغرات في الحدود المصرية الليبية، ورغم عمله في هذا المجال على مدار ثلاثين عامًا، فإنه لم يتم ضبطه متلبسا أبدا بسبب حرصه الشديد وثقته التي لا يمنحها إلا لأخلص رجاله المقربين. وكان على الضابط أن ينتحل صفة مهرب، وبالفعل عمل مهربا لمدة تجاوزت الشهرين، أثبت فيها تفوقا هائلا وبراعة لا مثيل لها، وذاع صيته وسط المهربين خلال فترة قصيرة للغاية، بعد أن اشتهر بجرأته وذكائه وجودة بضاعته المهربة ورخص ثمنها.
ولأن المهرب الكبير يعتبر نفسه الملك المتوج في مهنته التي لا ينافسه فيها أحد، تجاهل المهرب الجديد في بادئ الأمر، وظن أنه سيقع عاجلا في قبضة الشرطة لجرأته، ولكن الضابط واصل عملياته بنجاح منقطع النظير، وبدأ في سحب البساط من تحت قدم المحلاوي. جن جنون المهرب الكبير، خاصة مع تجاهل المهرب الشاب له، فقرر أن يلتقي به وأرسل له أحد رجاله يخبره بأن “الملك” يريد مقابلته، وعلى غير المتوقع أرسل الضابط المتنكر هدية مع رجل ملك التهريب، وأخبره بأنه يعتبره أستاذه وقدوته في هذا المجال ووعد بزيارة الملك في المساء التالي.
كان من الطبيعي أن يقابل “الملك” المهرب الشاب بحفاوة مثل التي استقبل بها رسوله إليه، وأكد الضابط احترامه وتقديره له وأن تأخره في زيارته لم يكن غرورا أو تكبرا، وإنما كان رهبة من الأستاذ الكبير في عالم التهريب والمناورة. وكرد فعل نفسي طبيعي، تمت دراسته مسبقا في قسم خاص بالمخابرات العامة، قرَّب “المحلاوي” المهرب الشاب إليه وسعد بقربه، بل إن الضابط استطاع أن يقنع المهرب بأنه أكثر خبرة منه بدروب الصحراء وخفايا خلجان الشواطئ، ولذلك قرر المهرب الكبير أن يضمه إليه وأن يعملا سويا ليستفيد من خبرة المهرب الشاب.
وبعد علاقة عمل ناجحة بينهما استمرت لشهر، وتحديدا في أواخر يوليو 1973، اقترح الضابط على “مرزوق” أن يقوما بشراء المصابيح اليدوية وتهريبها. لم يتقبل الملك فكرة تهريب المصابيح لغرابة الفكرة، ولكن ببراعة شديدة استطاع المهرب الشاب إقناعه بأنها خفيفة الوزن، وصغيرة الحجم وأسعارها مقبولة، بالإضافة إلى استعمالها بين أطياف الشعب المختلفة. وبعد أن اقتنع ملك التهريب بالفكرة، قررا استئجار 3 مخازن كبيرة لتخزين الشحنة الضخمة بها، وكانت تلك المخازن عبارة عن مخزن كبير في الصحراء الغربية، والثاني في بدروم فسيح، وجراج في العباسية بالقاهرة، وبالفعل وصلت الشحنة وتم تشوينها بداخل المخازن الثلاثة.
وبعد تشوين المصابيح، أقنع “ضابط المخابرات” المنتحل صفة مهرب “المحلاوي”، بأن ينتظرا حتى تنتهي مباحث التموين من حملاتها التي تشنها على المحال التجارية، لمراجعة كل البضائع المستوردة، وتحديد مصادرها الرسمية، لأنه في مثل هذه الظروف ينخفض سعر البضائع المهربة كثيرا، لأنه لا أحد يريد المخاطرة، ولذلك من الأفضل الانتظار حتى انتهاء الحملات التموينية، ليبيعا بضاعتهما بسعر جيد. واستمرت الحملات التموينية حتى بداية شهر سبتمبر، وبعد انتهائها اتفقا على تسليم البضاعة، وعند التسليم فوجئا بالشرطة تقبض عليهم وتداهم المخازن الثلاثة، وأصدرت النيابة أمرها بمصادرة المصابيح اليدوية المضبوطة، طبقا للقانون وطرحها للبيع في المجمعات الاستهلاكية، قبل اندلاع حرب أكتوبر بثلاثة أسابيع، على نحو طبيعي للغاية لم تنتبه عيون العدو إليه أو ترصده، ولم يتصور أحد أنها خطة مدروسة لغمر الأسواق المصرية بالمصابيح اليدوية المطلوبة قبل أيام الحرب.
للأسف انتهت المساحة المقررة لمقالي، وتبقى في الكتاب قصص أخرى كلها تكشف عن قدرات فذة للعقل المصري الذي عندما يقرر المواجهة فإن حرارة إبداعه تذيب برودة حديد الدبابات.